نجم الدين سمّان
ما بينهما.. ليست أشجار الزيتون وحدها؛ ولا التنافسُ الذي عزَّزَهُ تُجّار الزيت في خانات حلبَ منذ قرون؛ حول أيِّهما أفضلُ: الزيت الإدلبيّ.. أم زيت عفرين؟!.
أعرف بأنّ ثمَّة عرباً في عفرين منذ قرونٍ طويلة؛ ولا أعرف إذا كان ثمّةَ أدالبةٌ قد استقرُّوا فيها.. وبخاصةٍ حين بدأت سلسلةُ التهجير الأسديّ المُمنهَج.
بينما كانت عائلة “الكرديّ” معروفةً في إدلب؛ لكنها كانت عائلةً كرديّةً مُستعرِبَةً؛ وعلى غِرَار مثيلاتِهَا في حلب ودمشق وحتى في كفر تخاريم.. حين تمَّ لاحقاً تعظيمُ الأصلِ الكرديّ لإبراهيم هنانو “قائد ثورة الشمال ضد الفرنسيين” على حساب انتمائِهِ السوريّ!.
أمَّا المفارقةُ الطريفةُ التي لا تُغادِرُني.. فهي عن أحد أفرادِ عائلة الكرديّ في إدلب؛ الذي كان أكثر ناصريةً حتى من الناصريين العروبيين؛ ومكتبتُه فيما يُسمَّى “الشارع العام” خلال الانتداب الفرنسي؛ وتغيَّرَ اسمُهُ بعد الاستقلال إلى “شارع القوتلي” ثمّ إلى “شارع الجلاء” بعد انقلاب حافظ الأسد؛ أمّا مكتبته.. فبقيت على اسمها العتيد: “مكتبة الأقطار العربيّة”!.
ومن المُفارقات أيضاً.. أنّ كثيراً من أكرادِ سوريا.. كانوا شيوعيين في جبهة حافظ الوحش “التقدمية الاشتراكية” تحت راية الكرديّ الشيوعيّ الخالد.. خالد بكداش؛ ولم نعرف بعثياً كردياً عن قُربٍ.. حتى مجيء زهير مشارقة؛ الذي ارتكبَ مجزرةً بحقّ أبناء حارتِه في حلب: “حيّ المشارقة” مطلع ثمانينات قرنٍ مضى؛ ثم حين صار نائباً لحافظ الوحش.. أوصَى علي عقلة عرسان بأحدِ الرفاق البعثيين من جماعته؛ ليكونَ رئيسَ فرع اتحاد الكتاب في حلب؛ وكان كردياً بعثياً اسمُه: عبدو محمد.. ” أبو عروبة”!.
وبينما كنَّا نبتكر النِكَات عن كُرديَّتِهِ البعثية؛ كان أغلبُ الكُتّاب الأكراد في حلب يزورنه في مكتبِهِ.. بوصفهِ مسؤولاً كردياً!؛ واستمرَّ في منصبه دهراً.. حتى بعد موت القائد الأبديّ؛ فلمَّا كُنّا نُخرِجُ العددَ الأول من جريدة “الدومري” مطلع 2001؛ التفتَ الصديق الفنان أسعد فرزات.. قائلاً:
– أعطوني شي نكشة من نكشاتكم.. لسَكِّر إخراج هالصفحة.
فنهضتُ إليه لأعرفَ حَجمَ ما تبقّى؛ ثمّ اقترحت عليه دائرةً بلونٍ أحمر؛ أسميناها: بقعة ضوء؛ ولا أدري كيف تذكّرتُ وقتها الرفيقَ الكرديَّ أبو عروبة؛ فارتجلتُ الجملة التالية: “بدأ عصر النهضة العربيّة.. مع الإمام محمد عبدو؛
وانتهى تماماً.. مع الرفيق عبدو محمد!”.
قبل تلك الحادثة بسنوات.. اتصل بي الصديق ممدوح عدوان؛ يسألني عن دعوةٍ وُجِّهَت له للمشاركة في مهرجانٍ للشعر الكردي العربي سيُقام في عفرين؛ فقلت له: توكَّل.. حضورُكَ يدعم حقوقهم الثقافية. قال: – جايي أنا ولقمان ديركي.. جَهِّز حالك.
وفي سيارته الصغيرة “السُلحُفَاكِن” برفقة “آلة البُزُق” الخاصَّة بالديركي؛ انطلقنا من حلب إلى عفرين ونحن نبتكر التعليقات الساخرة ونضحك طوال الطريق الذي سيُوصِلُنا إلى مكان المهرجان في الهواء الطلق قرب آثار “النبي هوري”؛ وعلى مَفرِق ذاك الطريق الفرعيّ.. أشارت لنا دوريةُ شرطةٍ أن نتوقف؛ قال ممدوح عدوان ضاحكاً: – ما تحكوا إنتو.. اتركوني “قاقي” على طريقتنا!.
تأمَّلنا المُساعِد أول في الشرطة الأسديَّة؛ فلمّا رأى “آلةَ البُزُق” في السيارة.. استنفر: – لمين هادا؟!.
أجاب ممدوح: – إلي.
رفع لقمان صوته كمن يُدافِع عن ميراثِهِ الكرديّ: – البُزُق إلي أنا.
قال ممدوح للمساعد أول مُتقصِّداً إظهارَ لهجته العلويّة:
– ما تصدقو.. اسمُه لُقمَان؛ بس هُوِّي سِعدَان؛ أفينو ما يحكي.
لوهلةٍ.. جَمَدَ المساعد أول: – طيّب.. مُمكن هويّاتكن.
أعطيناه بطاقاتِ هُوِيّتنا.. فأخذ يُقلِّبُها: لقمان.. من ديريك – القامشلي – مولود في “كفرجنّة” قرب عفرين؛ أميَّة.. من دمشق؛ غادة.. من دير الزور؛ نجم.. من إدلب؛ ممدوح.. من مصياف – دير ماما؛ هَزّ المساعد اول رأسَه.. كأنما ليستوعب هذا الكوكتيل السوريّ: – وين رايحين؟!.
أجاب ممدوح: – عَ النبي هوري؛ قال فيها آثار.
فرفع لقمان صوتَه.. كأنما ليُنَاكِدَ الشرطيّ:
– على مهرجان الشعر العربيّ.. الكرديّ.
كنّا نحبِسُ ضحكاتنا.. حتى صرخَ المساعد أول:
– البُزُق ممنوع.. رَح نصادره؛ والمهرجان كمان.. ممنوع.
عندها نزل ممدوح عدوان من سيارته.. يُجَادِلُه:
– كل شي إلا الشعر والبُزُق؛ منروح سوا لعند رئيس الناحية.
هكذا ذهبنا وراء سيارة الشرطة؛ وعلى الطريق.. رأينا باصاً تمَّ منعه من متابعة الطريق إلى المهرجان؛ وتمَّ إنزالُ رُكَّابِه فجلسوا تحت أشجار الزيتون.. ريثما يسمحونَ لهم بالعبور.
استغرقت المفاوضات التي قادها ممدوح عدوان نِصفَ ساعةٍ مع مدير الناحية؛ ومثلُهَا عبر الهاتف الأرضي مع مدير المنطقة؛ حتى اقتنعوا بالسماح للجميع؛ على أن يذهب مديرُ الناحية معنا ليُراقب الوَضعَ عن كثبٍ.. منعاً لأيَّة تجاوزات؛ مُصرّاً على اصطحاب صورةٍ كبيرةٍ لحافظ الوحش ليرفعوها فوق المنصّة الخشبية؛ فلا شيء في سوريا يحدث.. بدون رعايته!.
المُفارقة أن أحد الكتاب الأكراد السوريين من أتباع حزب أوجلان الكرديّ التركيّ؛ غَمغَمَ في وجهي مُمتعِضاً: – ما صار إلا رفعوا صورة رئيسكم.
أخذتُهُ جانباً: – أحضرها المساعد قسراً؛ لا تُزَاوِد علينا.. أما كنتُم ترفعون صورتَه مع صورة أوجلان لسنواتٍ طويلة؟!.
وما تزال تلك الجملة ساريةَ المفعول.. كلَّما تحالف أولاد أوجلان الصِغَار مع أولاد الأسد الصِغَار!.
كم أتمنّى أن نعودَ ثانيةً إلى عفرين.. لنُقيم مهرجان شعر عربي – كردي جديد؛ رافعين صورةَ “مشعل تمّو” الذي اغتالَهُ ذاك التحالفُ المُرِيب.
فمنذ اغتياله.. افترقَ طريقُنا الواحدُ نحو الحريّة/ آزادي؛ فأُجبِرَ العربُ السوريون تحت القصف وبالتدخلات الإقليميّة على ترك نضالهم السلميّ إلى العسكريّ.. حتى كادَ بعضُهُم يتحالف مع الشيطانِ ذاتِه.. لإسقاط الطاغية!؛ بينما أُجبِرَ أغلبُ الأكراد السوريين على المُضيِّ في طريقٍ آخرَ مُختلِفٍ تماماَ عن أحلامنا الأولى بدولة مُوَاطَنَةٍ لجميع السوريين؛ إلى التعايش مع حزب عقائدي شمولي كردي؛ لا يختلف عن حزب البعث العربيّ العقائديّ الشموليّ؛ حتى بات علينا أن نفحصَ نسبةَ الزيتِ الإدلبيّ عند هؤلاء؛ ونسبةَ زيتِ عفرين عند أولئك.. لنتأكد بأنهم ما يزالونَ مِثلَنَا: سوريين!!.
Social Links: