أسامة آغي _عنب بلدي
حين نستعرض نماذج الأوضاع التي يعيش في ظلها السوريون، سنكتشف أن فروقًا ليست جوهرية تميّز نموذجًا عن آخر من النماذج الثلاثة، ونقصد بذلك نموذج النظام عبر تاريخه الاستبدادي، ونموذج “سلطة الواقع” في منطقة الجزيرة والفرات، حيث تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تقودها قيادات جبال قنديل من منظمة “PKK”، ونموذج “الحكومة المؤقتة” المنبثقة عن “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”.
النماذج الثلاثة، سنمر عليها عبر وضع السكان المعيشي، ووضعها الاقتصادي، والسياسي، والأمني، بحيث نحاول أن نرى الميزات، التي يمكن البناء عليها لسوريا المقبلة. فلا يجب أن يكون التقييم والمقارنة مجرد قراءة من سطح الأمور.
فالأوضاع في المناطق الخارجة عن سلطة نظام الاستبداد، لا يبدو أنها بصورة جيدة، فالمناطق المحررة في شمال حلب وإدلب، لم تضع خططًا ملموسة وواقعية لاستثمار موارد المنطقة البشرية والاقتصادية والعلمية، بل بقيت هذه الأوضاع في حالة فراغ على هذه الأصعدة، وبالتالي لم تستطع أن تشكل النموذج الجاذب للسوريين في ظل فصائل ثورية، حيث لا تزال هناك انتهاكات لحقوق الانسان من اعتقالات كيفية وغيرها من الانتهاكات.
هذا النموذج المطلوب، هو من مسؤولية “الحكومة المؤقتة” والمجالس المحلية، وخلفهما “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، وهذه الجهات المذكورة، لم تكن لديها رؤية استراتيجية لتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية في هذه المناطق، وهو ما جعل الأوضاع فيها مجرد امتداد للأوضاع التي يعيشها السوريون الخاضعون لنظام الاستبداد.
ففي مناطق الشمال، لا تزال سلطة “الحكومة المؤقتة” ضعيفة، وحضور مؤسساتها لا يكاد يكون فعالًا بمعنى التخطيط السكاني والاقتصادي والاجتماعي والعلمي…
كذلك لا يزال الوضع الأمني غير مستقر، حيث يتم من وقت إلى آخر اختراق هذا الوضع عبر تفجيرات تقوم بها قوى معادية لفصائل الثورة ولـ”الحكومة المؤقتة”، هذه الحالة لا تسمح باستقرار جدي وتطوير لمناحي الحياة في هذه المناطق، وبالتالي فهي لم تستطع تقديم نموذج حياة اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية يمكن أن يكون نموذجًا يُحتذى به.
الأمور ذاتها لم تكن بصورة أفضل في مناطق الجزيرة والفرات، فهذه المناطق تقع سلطة الأمر الواقع لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يقف خلفها حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردستاني”، وهو الذراع السورية لحزب “العمال الكردستاني”.
هذه الأوضاع تعود إلى الدور الذي لعبته “قسد” وحزب “الاتحاد الديمقراطي الكردستاني”، وهو دور يشير إلى أنه لا علاقة له بخلق نموذج وطني سوري، يمكن أن يشكّل نموذجًا يريد السوريون أن يشمل سوريا كلها، فهو لم يتصرف على قاعدة الوطنية السورية، وهذا بالطبع غير ممكن في ظل هيمنة قيادات جبال قنديل على جميع أشكال حياة السكان في هذه المنطقة، وعدم قدرة حزب “الاتحاد الديمقراطي” على أن يكون سوريًا.
إن الوضع الأمني والسياسي في مناطق سيطرة سلطة الأمر الواقع، يكشف عن امتداد السياسة الأمنية، التي يتبعها نظام الاستبداد في دمشق، فلا تزال هناك عمليات انتهاك لحقوق الإنسان، إضافة إلى سياسة تمييز عرقي تقوم بها هذه السلطات. أما الوضع الاقتصادي فهو ليس أفضل حالًا بكثير من الوضع الاقتصادي في مناطق النظام السوري، فلا رقابة على إنتاج النفط والغاز، ولا على تسويقه، أو غير ذلك من العمليات الاقتصادية، إضافة إلى وجود فساد إداري كبير تتحدث عنه التقارير الصادرة عن تلك المنطقة.
إذًا، لم تستطع سلطات الأمر الواقع أن تقدم نموذج حكم رشيد وعادل يمكن أن يشكّل قاعدة جذب سياسي لتغيير بنية نظام الحكم في سوريا بأجمعها، وهذا يعني فشلًا ذريعًا يتم التمويه عليه باستخدام سياسة القمع والاغتيالات والتهديد المستمر.
أما النموذج الثالث، الذي يعبّر عن طبيعة النظام السوري الاستبدادية، فلا حاجة لنا إلى شرح سياسته حيال وضع السكان الذين يعيشون في ظل استبداده، فهو نظام مسؤول عن أغلبية جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى أنه مسؤول عما آلت إليه حال السوريين، نتيجة عدم امتثاله لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بالوضع السوري، وقد قال المبعوث الأمريكي الجديد للملف السوري، جويل ريبورن، في وضع النظام السوري: “إن العقوبات التي نفرضها، تُظهر عزمنا على الحدّ من قدرة الجهات المؤيدة للنظام، بما في ذلك القادة العسكريون، والنوّاب في البرلمان السوري، والكيانات التابعة لنظام الأسد ومن يمولونه، على استخدام مواقعهم لإدامة حرب بشار الوحشية والعقيمة”.
نحن إذًا أمام فشل عام في سوريا، فشل في ظل نظام الاستبداد، الذي أوصل الأمور إلى حافة الهاوية، وفشل في الجانب الآخر الذي تديره قوى المعارضة وفصائلها، أو يديره حزب تُعشّش برأسه فكرة الأمة الديمقراطية، في وقت يعيد إنتاج القهر والقمع والرعب في مناطق نفوذه.
هذه الوقائع الملموسة، على صعد الحياة في المناطق السورية المختلفة، تتطلب من قوى الثورة والمعارضة، ومن تمثيلات المجتمع المدني، والنخب السورية المختلفة، تقييم الحال التي وصلنا إليها، لاشتقاق مسار جديد فشلت القوى المتصدرة في السير به إلى حال حسنة.
فالصراعات بين قوى الثورة والمعارضة مع النظام الاستبدادي، انتقلت الآن إلى عمق هذه القوى، وقد بدأ التأسيس لهذه الحالة، مع طي صفحة حياة “المجلس الوطني السوري”، وتشكيل “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، الذي هو الآخر لم يستطع تنفيذ مهمات سياسية وطنية، كان من الضروري أن يلعبها، وهي تتمثل بأن يكون تعبيرًا سياسيًا حقيقيًا عن مصالح وتطلعات السوريين وثورتهم.
هذا الغياب في دور “الائتلاف”، سمح للقوى الدولية استغلال عدم استقلالية هذه المؤسسة عن الدعم الذي تقدمه هذه القوى لها، ما جعل القوى الدولية صاحبة الحل والربط، وجعل “الائتلاف” ملحقًا سياسيًا لمجموعة أصدقاء سوريا.
هذا الأمر ظهر بتشكيل هيئتين أخريين، هما “هيئة التفاوض” واللجنة الدستورية، فالتدخل الدولي لا يزال حاضرًا في عمل مؤسسات المعارضة كلها، وهذا يتضح من تعطيل عمل “هيئة التفاوض” بسبب حسابات بعض مكونات الهيئة، التي ترتبط بأجندات إقليمية أكثر من ارتباطها بأجندتها الوطنية، التي تتلخص بالإصرار على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية السورية من أجل تحقيق انتقال سياسي ناجز على قاعدة تلك القرارات.
إن سعي قوى الثورة والمعارضة لتحقيق نموذج يحتذى به لدى الشعب السوري، يتطلب بُنية عمل سياسية جديدة، تعتمد على الشفافية والانفتاح على حاضنتها، وعدم الارتهان لأجندات غير وطنية، وتحت أي مسميات، وهذا يتطلب تصويب علاقات تحالف قوى الثورة والمعارضة مع القوى الدولية والإقليمية المناصرة للثورة، بحيث تجنح قرارات مؤسسات الثورة إلى الاستقلالية وإلى خلق النموذج الوطني المستقل النظيف والديمقراطي، وهذا يتطلب انتقالها للعمل من الداخل، ووقف الاعتماد على تمويل أصدقاء سوريا الذين يتحكمون بالمعارضة، وهذا أمر يمكن مناقشته بصورة شفافة مع أقرب حلفاء الثورة السورية.
فهل تذهب القوى المتصدرة للمشهد السياسي للثورة نحو هذا الهدف؟ أم أنها دخلت عطالتها الدائمة، ويجب تغييرها؟
Social Links: