دلال البزري _ العربي الجديد
لقمان سليم شهيداً. رجل الذاكرة قُتل بخمس رصاصات. تركها لنا جميعاً، إرثاً موزّعاً على الأقرباء والأبعد منهم. لم تجفّ دماؤه بعد، حتى استَحضرت جريمة اغتياله جرائم أخرى، خيطها واحد ودوراتها مختلفة:
عام 1985، عندما كان الحزب الشيوعي على خلافٍ مع دمشق، وبعدما احتلت حركة أمل بيروت، وسيطرت على الضاحية والجنوب، حصلت سلسلة اغتيالات لعشرات من كادرات الحزب الشيوعي اللبناني الجنوبيين، تتوزّع مهَنهم بين التدريس والطب والصحافة. دورة القتل هذه بدَت شبه صامتة في بدايتها. ولكنها انفجرت عام 1987 باغتيال نجمَين بارزَين من الحزب الشيوعي: الأول حسين مروة، الفيلسوف الشيوعي الجامع بين التراثَين، الماركسي والإسلامي. بكاتمٍ للصوت، وهو راقد في سريره. وتحديداً في فبراير/ شباط من ذاك العام. والثاني مهدي عامل، منظّر الحزب الشيوعي الألمع، من بعده بثلاثة أشهر (مايو/ أيار). بين الشهرين، كان مهدي عامل في جلسةٍ مع أصدقاء له، سوريين. طرحوا عليه السؤال: ألا تخشى على نفسك؟ كلا أجاب. مع أنه مثل حسين مروة، “شيعي شيوعي”، كما وصفه في تلك الجلسة. وكان اغتيال مهدي عامل خاتمة دورة من القتل، سُمّيت فيما بعد “دورة قتل الشيوعيين”. وكانت منافسة الشيوعيين لحركة أمل بين القواعد الشيعية تلتقي مع عداوة دمشق المستجدّة للحزب الشيوعي اللبناني.
ثمة علاقة معقّدة وقائمة بين اليساريين الذين ناهضوا حزب الله واليساريين الذين اندمجوا بمشاريعه
ثمانية عشر عاماً تفصل بين هذه الدورة وأخرى، لا تشبهها إلا بالقاتل، عام 2005. هذه المرة رفيق الحريري يقع صريع إنفجار ارهابي، هو بداية لدورة اغتيالات طاولت نواباً وشخصيات ومثقفين كانوا معارضين لدمشق، ومتحمّسين لانسحاب جيشها من لبنان. عشية اغتياله، أُبلغ الحريري بتهديداتٍ تطاول حياته. أجاب عليها بأنه لا يمكن اغتياله، فهو محميّ من جاك شيراك نفسه، رئيس جمهورية فرنسا. هنا أيضاً التقى نهران: السوري واللبناني. والأخير هذه المرّة، اللبناني، متمثل بحزب الله، الذي تفوّق على حركة أمل توسعاً ونفوذاً وتسلّحاً.
ومنذ أكثر من عام، التقيتُ بلقمان سليم في إطار دراسةٍ كنتُ أعدّها عن اليسار اللبناني. بدارته القديمة الشاسعة، المنذورة لفعالياتٍ ثقافيةٍ متنوّعة. بعد الحديث، جلتُ مع لقمان في ما يمكن وصفها بدهاليز مكتبة عارمة ترتفع رفوفها إلى السقف، العالي أصلاً. غابة من الكتب والمقالات والملفات والقصاصات.. هذا الرفّ، ذاك الحائط.. عن كذا، وذاك عن كيت. مشاريع مهولة. تحتاج إلى فريق يتفرّغ لفرزها، على الأقل. وكلها كلها.. تحفظ الذاكرة. ليس اللبنانية وحسب، بأدق طيّاتها، بل السورية أيضاً والفلسطينية. ذلك كله في قلب الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، مقْرون بمواقف لقمان العلنية المناهضة للحزب. “ألا تخاف من الاغتيال وأنتَ على تماسّ مباشر مع البيئة الحزبلاهية المعادية؟” سألته، وقلبي يرتجف… كلا أجاب. “لِم أخاف؟ لن يقتلوني. انا محميّ..”. وأخذَ يشرح لي تلك العلاقة المعقّدة القائمة بين اليساريين الذين ناهضوا حزب الله واليساريين الذين اندمجوا بمشاريعه.
في البداية، كانت الأيادي الدمشقية “المحلية” تتجسّد بحركة أمل، ثم تصاعدت هيمنة حزب الله، وانتقلت الوكالة السورية -“الممانعة” إلى حزب الله، رأس حربة محور الممانعة.
بعد هذا اللقاء، انفجر المرفأ. وكان قد سبق اغتيال لقمان سليم، اغتيالان يمتّان بصِلةٍ إلى المرفأ: ضحيته الأولى كانت العقيد المتقاعد، منير أبو رجيلي، بعد أربعة أشهر من الانفجار. وُجد مقتولاً في منزله بآلة حادّة. وأبو رجيلي شغل منصب رئيس مكافحة التهريب في مرفأ بيروت. وعُلِم أنه كان يملك معلوماتٍ عن السفينة حاملة نترات الأمونيوم. الضحية الثانية كانت جو بجاني، بعد خمسة أشهر من الانفجار. وقد اغتيل بكاتم الصوت، وهو خارج من منزله ليوصل أولاده إلى المدرسة. وبجاني، بصفته المصوِّر المعتمَد لدى الجيش اللبناني، كان يملك أرشيفاً غنياً من الصور عن المرفأ المنفجر. لم يمضِ شهران على اغتيال بجاني، وربما آخرين لم نعلم بهم، حتى كان اغتيال لقمان سليم، على الخط نفسه. لقمان كان لا يملك معلوماتٍ وحسب، عن تورط دمشق وحزب الله بالانفجار، وهي موثقة ودقيقة… بل كان يروّج فحواها. وهذه شجاعة تتفوّق على نفسها. ويمكن تسمية هذه الدورة من القتل باسم “الكشف عن قتلة انفجار المرفأ”. ولذلك علينا توقع مزيد من الاغتيالات.
ولكن بصرف النظر عن أن “التحقيقات آخذة مجراها”، التي “لم تتوصل إلى نتيجةٍ تكشف عن القاتل”، وما إلى هنالك من أدبيات غسل أيادي القتلة من دماء ضحاياهم، ثمة استدلال “سياسي”، هو الخيط الرابط بين مرتكبي الجرائم ذات الدورات الثلاث: عنوانها دمشق. في البداية، كانت الأيادي الدمشقية “المحلية” تتجسّد بحركة أمل، ثم تصاعدت هيمنة حزب الله، وانتقلت الوكالة السورية -“الممانعة” إلى حزب الله، رأس حربة محور الممانعة.
أن نصبّ الاتهام على حزب الله وحده ليس بالعدل، فللحزب شركاء في الحكم، وأحياناً في التحكّم
وأيضاً: ثمة استدلال “وجودي”، إذا جاز التعبير، من أن الضحية في الدورات الثلاث من القتل لا تصغى إلى التهديد بالقتل. ولا تصدق أنها ستُقتل. هل “البراءة” تحدّ من خيالها، وتدع لحرية القاتل متسعاً مريحاً لتصوّر كيفية القتل وتقرير توقيته؟ آخذاً في حسابه أن الضحية “لا تصدّق”؟ هل يمكن الضحيةَ أن يكون أقل براءةً من ذلك، فيدافع عن نفسه، أو يحميها؟ هل يحتاج في هذه الحالة إلى القوة؟ أو السلاح؟ هل يتشبّه الضحية بالجلاد، فيحمل سلاحه ليدافع عن نفسه؟
بمعنى آخر: بأية قوة يتقوّى الضحية إن لم يكن بالكلمة، المسنودة إلى الذاكرة؟ وفي هذه الدورة تحديداً من دورات القتل، حيث الذاكرة هي المقصودة بالقتل، أي “نسيان” جريمة المرفأ، والصمت التام.. هذه الذاكرة كانت بين يدَي لقمان سليم بالوثائق والنصوص والبراهين.. وجعلته مالكاً لمفاتيح جريمة المرفأ.
التحقيقات الرسمية ستفضي إلى دفن الملف بعبارات “لم يتوصل التحقيق…”. دفن الملف يعني نسيانه، كما أحيلت على النسيان ملفات دورات القتل السابقة، مهما بلغت من “أهمية”. وملف مقتل الحريري ذروة هذه “الأهمية”. بمحكمته الدولية، وخلاصاتها واتهاماتها الصريحة لأعضاء من حزب الله. ومع ذلك، “فالج لا تعالج ..!”.
بالموازاة: أمام المعطيات الكثيرة التي تضع حزب الله في دائرة الاتهام، وبعد أن أُشبع لقمان سليم تهماً بالعمالة لأميركا وإسرائيل على لسان الميديا التابعة له، يظهر المكلَّفون القيام بالدور الفولكلوري إياه: أن إسرائيل، التي يرتبط بها لقمان سليم ارتباط “العمالة” و”الخيانة”، هي التي قتلته. من بينهم الشيخ صادق النابلسي، أحد وجوه حزب الله الإعلامية. إذ يفهم هذا الشيخ تماماً لماذا قتلت إسرائيل لقمان سليم: أنها تريد أن تشعل “الفتنة والتفرقة في الأوساط الشيعية”.
لن تسكت رشا، لن تسْتكين. حواسُّها كلها مستنفرة. ومعها سلمى ومونيكا. إنها في طريقها للتحوّل إلى أيقونة إغريقية
الآن: أن نصبّ الاتهام على حزب الله وحده ليس بالعدل، فللحزب شركاء في الحكم، وأحياناً في التحكّم. يلعبون على حبال وحبال، يستشرسون، يتشاجرون، يتخاصمون، يملأون الأثير ببياناتهم القارصة، الغاضبة. ولكنهم، في النهاية، يصغرون، يرضون بالقسمة. ويسكتون عن آلة القتل. يعدّلون أحياناً من ميزان القوى، استناداً إلى إشارةٍ من هنا أو لمحةٍ من هناك. ولكنهم، في المحصلة، يدخلون في تسوياتٍ وصفقات مع الحزب القائد. يحافظون بفضلها على حصتهم في الحكم، القليلة بنظرهم. هذا ما يجعلهم، بحكم الضرورة الموضوعية، مبتلِعين كل جرائم الحزب، غاضّين الطرف عنها. وأحياناً قبل وقوعها. بل متراجعين عن حق دماء أقربهم إليهم، ولو ببراهين المحكمة الدولية. وهؤلاء هم الشياطين الخرساء. الساكتين، ضعفاً وهواناً، عن جريمة المرفأ بحكم المصلحة المشتركة. والآخذين بالمزايدة الضميرية عبر الصحف والشاشات. هم الجزء الذي يجعل المنظومة بأسرها “تعمل”، أي تبقى فوق صدور اللبنانيين مثل صخرةٍ ساحقة ماحقة.
ولذلك، ستلتحق جريمة لقمان سليم بجرائم هذه الدورة من القتل. ولكن مع فرقٍ شاسع: الذين سكتوا عن جرائم تمسّهم مباشرة، ورثة الشهيد، مقابل تسويةٍ أو صفقة، زهيدة أو باهظة. مثل الحزب الشيوعي الذي سكتَ عن اغتيالات الدورة الاولى، أو سعد الحريري الذي يسكت عن الثانية.. هؤلاء لا يشبهون ورَثة لقمان سليم. شقيقته رشا، تتصدّرهم، ومعها سلمى، والدة لقمان سليم، ومونيكا، زوجته.. بحزنهن النبيل المنيع، بعباراتٍ مختلفة، أخذن على عاتقهن، منذ اللحظة الأولى، استكمال الذاكرة التي وضع لقمان أركانها قبل اغتياله. أي إنها جريمة لن تنتهي كسابقاتها، لا في الدورتين الأولى والثانية ولا الأخيرة. منسية في الأدراج…
كلا. لن تسكت رشا، لن تسْتكين. حواسّها كلها مستنفرة. ومعها سلمى ومونيكا. إنها في طريقها للتحوّل إلى أيقونة إغريقية: الشقيقة حامية ذاكرة شقيقها.
Social Links: