خضر الآغا – السوري اليوم :
الدعوات إلى نقد الثورة السورية رافقت الثورة منذ بداياتها الأولى، لا سيما مع بدء إطلاق تسميات تشي بطابع هوياتي لبعض أيام الجمع، الأمر الذي فُسّر حينها تفسيرات مختلفة بين كون تلك التسميات تحريضية، أو إيديولوجية، أو انحرافية… وكان الأمر حينذاك حيويًا، جداليًا، وواقعيًا. إذ من المتفق عليه أن استمرار ظاهرة: فكرًا وحركة منوط بنقدها.
إلا أنه مع اتخاذ مجرى الثورة شكلًا بدا معقدًا على نحو خاص، اتجه النقد اتجاهات تداخلت فيها آراء أنصار الثورة ومؤيديها مع الآراء المضادة التي ترمي إلى تكوين رأي عام موحد ضدها، من أكثر تلك الانتقادات جدلًا وغموضًا هي المتعلقة بـ “أسلمة الثورة”، و”عسكرتها”. سأنصرف هنا إلى أمر “الأسلمة” كما رآه أنصارها ومؤيدوها.
بدا أمر أن الثورة بدأت شعبية قام بها السوريون جميعًا، ثم تحولت إلى ثورة إسلامية أمرًا جامعًا لجزء كبير -إن لم يكن غالبًا- من سوريي الثورة، وبدا توصيف الثورة بأنها إسلامية أمرًا بديهيًا لا نقاش فيه، وقد عزز ذلك لديهم أن غالبية الفصائل المقاتلة التي نشأت باسم الثورة عقب تراجع دور الجيش الحر وانحساره، ثم أفوله تقريبًا، كانت إسلامية التوجه والتعبير والتسمية، ومنها من جهر أنه يقاتل في سبيل الله لإعلاء شأن الإسلام من جانب، ولتحقيق الدولة الإسلامية على نهج الإسلام الأول من جانب آخر. وقد تشجع بعضهم في استنتاج إسلامية الثورة منذ أن بدأ هتاف “الله أكبر” ينطلق من الجموع! وتأكدوا من ذلك انطلاقًا من مقولة “يا الله مالنا غيرك” التي قالها سوريون عبر مراحل مختلفة.
الأمر المهم هنا هو أن مفهوم الثورة التبس على كثيرين من حيث أنهم جعلوا من ثورة الناس، ومن المعارضة السياسية (المجلس الوطني، ثم الائتلاف الوطني، وهيئة المفاوضات، ثم المنصات) والفصائل المقاتلة شيئًا واحدًا، وقد كان هذا، في ظني، خطًأ كبيرًا. فالثورة شيء، والمعارضة شيء، والفصائل شيء آخر. هي ثلاثة مسارات منفصلة وذات سياقات مختلفة في النشوء والتكون. اعتبار تلك المسميات مسمى واحدًا جعل سلوك المعارض أو المقاتل محسوبًا على الثورة برمتها، ونحن نتذكر أن ما كان يطفو على سطح المشهد هو السلوك المضاد لمبادئ الثورة وأخلاقياتها. إن وجود تيارات إسلام سياسي في المعارضة كالأخوان المسلمون، والصبغة الإسلامية لغالبية الفصائل، بالتزامن مع عدم قيام عمل جدي وحقيقي لفصل تلك المسارات عن بعضها من جهة، وعن الثورة من جهة أخرى، جعل صفة “إسلامية” الملحقة بالثورة بل والمرادفة لها راسخة إلى حد كبير وشاملة.
مع هذا، وقبله، علينا أن نتذكر، بلا هوادة، أن أعداء الثورة هم الإسلاميون، وهم الدينيون قبل نشوء الفصائل واتخاذ غالبيتها توجهًا وتعبيرًا إسلاميين، بل حتى قبل اي شعار هوياتي اتخذته الثورة وأثار جدلًا ونقاشًا بين أنصارها، منذ أيام الثورة السلمية التي لم تكن تملك سوى حناجرها وصدورًا عارية؛ تهتف وتتلقى الموت في الآن نفسه. نتذكر تصريح بثينة شعبان في 26 آذار 2011 أن ما يجري في سوريا هو “مشروع فتنة طائفية تحاك ضد سوريا”. ثم بعد ذلك بوقت قصير (الشهر الرابع 2011) اعتبر أدونيس أن الثورة “تخرج من الجوامع” في إشارة إلى إسلاميتها قبل أن تبزغ ولو إشارة واحدة إلى إسلامية من اي نوع وشكل كان، عدا الترويج الشفوي الذي ما انفك ينتشر بين أقليات دينية (مسيحية) ومذهبية في أن الثورة إسلامية وسوف تجتاح الأقليات بعد اجتياح السلطة، وكان ذلك خلال الأيام الأولى لثورة الحناجر والورود.
تدخل حزب الله اللبناني في سوريا عسكريًا/طائفيًا منذ الأيام الأولى للثورة، وبرر أنه يريد حماية “المراقد الشيعية”، وأرسلت إيران “خبراء ومستشارين” من الحرس الثوري الإيراني في الوقت نفسه مع تدخل حزب الله ومع إرسال المالكي (العراق) ميليشيات مقاتلة. وعبر مقابلة تلفزيون “الميادين” مؤخرًا عرفنا أن تدخل حزب الله والحرس الثوري بدآ قبل بدء الثورة السورية، استعدادًا لمواجهتها منذ اندلاع الثورة المصرية! وهذا كان مواجهة إسلامية للثورة السورية، إنما (إسلامية شيعية) هذه المرة!
نتذكر جريمة البيضا في بانياس (الشهر الرابع 2011) عندما جمعوا الناس في ساحة القرية، ودعسوا عليهم وأهانوهم، تلك الحادثة التي كشف صحتها الشاب الجريء مجهول المصير “أحمد بياسي”، والتي تشير مجريات الجريمة، من أين نظرت إليها، على أنها طائفية، من حيث قيام الجيش والأمن بشتم الصحابة (أبوبكر وعمر) وتمزيق القرآن في الجامع وغير ذلك…
منذ بدايات الثورة سرّب النظام الكثير من أشرطة الفيديو التي تُظهر قيام شبيحة طائفيين، وعناصر أمن طائفيين، وجنود وضباط طائفيين وهم يقومون بتعذيب ناس من الثورة أو مناصرين لها تحت ادعاء أنهم إرهابيون وتكفيريون، وذلك لإشاعة وخلق روح طائفية عامة في الثورة وبين أنصارها وفي المجتمع عمومًا تدفع لتوجيه الصراع باتجاه طائفي/ديني، ولخق خصوم وأعداء طائفيين. وكذلك سرّب أشرطة فيديو لشيوخ دين من شيوخ السلطان الأسدي يتهجمون فيه على نساء (سافرات) من أقليات مذهبية، ويعدونهن ويعدون أهاليهن ومناطقهن بعذاب شديد حين إسقاط النظام… لإشاعة ذلك الخوف الطائفي/الديني من أجواء الثورة وأجواء التغيير التي وعدت بها.
ربما لا أستطيع، عاطفيًا، الدخول التفصيلي في عرض المجازر الطائفية الكثيرة التي ارتكبها النظام بحق السوريين: مجزرة حي كرم الزيتون وحي الرفاعي في حمص (12 آذار 2012) ومجزة الحولة وغيرها وغيرها… لخلق صراع أهلي طائفي لا يُبقي ولا يذر، وتحويل الثورة إلى حرب أهلية لا مكان فيها لغير المتحاربين.
أما بشأن الفصائل، فكون غالبيتها إسلامية، فهذا لا يوصم الثورة بذلك، فهي شيء، والثورة شيء آخر، سياق تشكلها مختلف عن سياق تشكل الثورة، فلو استطعنا فصل المسارين والتوجهين والنشأة لكنا بغنى عن مناقشة ذلك، ولو استطعنا وضع جزء منها على الأقل في موقع الثورة المضادة من جانب، وفي موقع التدخلات الإقليمية والدولية من جانب آخر، لكنا استطعنا -منذ مرحلة مبكرة من عمر الثورة- تفكيك صفة “الإسلامية” ونزعها عن الثورة الشعبية. لكن، مع ذلك، لا يجدر بنا أن ننسى أنه حتى هذه الفصائل تشكلت لتواجه الفصائل الأخرى الإسلامية أيضًا إنما الشيعية هذه المرة. فقد كانت ميليشيات نصر الله والحرس الثوري والمالكي تنتشر كالقمل على جسد الجمهورية من كل جانب.
كيف إذًا سيحولون “الثورة” إلى مواجهات عسكرية دامية، وكيف إذًا سيحولونها إلى مجرد صراع ديني مذهبي سني/شيعي لولا وجود فصائل مقابل بعضها…! كيف إذًا سينفذون المخطط الذي اتفقوا عليه منذ قيام ثورة مصر واستشعارهم خطر قيام ثورة في سوريا، وفق حديث نصرالله المذكور!
تعميم الصفة الدينية على الثورة جعل من أمر إطلاق تصريحات هنا وهناك، والقيام بسلوك عدائي هنا وهناك أمرًا متحققًا وسهلًا كما بدا، وهو ما حدا بلافروف أن يقول، على نحو سافر وبلا أدنى اعتبارات أخلاقية أو سياسية، أو كلاهما معًا، إنه يخشى “أن يستلم السنة مقاليد الحكم” بعد سقوط النظام! وقد شمل ذلك الكنيسة الأرثوزكسية الروسية فوصفت تدخل بوتين في سوريا على أنه “حرب مقدسة على الإرهاب” بما يعني ذلك من مباركة دينية وصفح إنجيلي على كل الجرائم التي سيرتكبها بوتين، وقد ارتكبها حقًّا، باسم مكافحة “مقدسة” للإرهاب الإسلامي (السني هنا)!.
هنا لا أقيم عرضًا متسلسلًا وتاريخيًا للتدخلات الإقليمة والدولية الدينية على خط الثورة، إنما أعرض لبعض الأحداث المهمة التي تقول بأن الثورة لم تكن إسلامية/ دينية، بل أعداء الثورة كانوا كذلك.
لا تتهم هذه المقالة أنصار الثورة ومؤيديها الذين مشوا بتلك الخديعة وانطلت عليهم إسلامية الثورة بأنهم، بقصد، برروا تبريرًا قويًا حرب النظام عليها، وحرب الإقليم، وحرب من حارب من العالم، إنما يأتي ذلك من باب نقد خطابهم هذا، وأنه، ساهم، بقصد أو بدونه، بتبرير الحرب وجرائمها. إذ أن ثورة إسلامية/ دينية هي ثورة مرفوضة ليس على مستوى العالم فحسب، بل حتى بالنسبة للسوريين أنفسهم.
Social Links: