“بيتْ العناكِش” توثّق سادية نظام بن علي ضدّ نساء تونس

“بيتْ العناكِش” توثّق سادية نظام بن علي ضدّ نساء تونس

إسماعيل دبارة _ قنطرة

في “بيت العناكش” يطرق الكاتب التونسي سمير ساسي أبواب سجن النساء ليتحدّث عن معاناتهنّ بسبب أساليب سادية مريعة لم تحترم ضعفهن ووضعهنّ.

بلغة “تُجمّل القبيح” لنقل معاناة سجينات في عمر الزهور

رغم امتداد تجربته السجنيّة على عقد كامل، ونشره الكثير من تفاصيل ما يتعرض له المساجين السياسيون في تونس من تعذيب ودوس على الكرامة، يحاول الروائي سمير ساسي في “بيت العناكش” أن يكتب بلغة غير صادمة عمّا تعانيه الإناث أيضا في سجن النساء من سادية وتنكيل لم تستثن حتى بنات في عمر الزهور بسبب انتماءاتهنّ. إسماعيل دبارة يلتقي سمير ساسي ويعدّ الورقة التالية عن روايته الأخيرة.

يبدو أدب السجون في العالم العربي كنبات نادر يحتاج مناخا وظروفا معينة لينمو ويتكاثر ويتطاول، إذ أن مناخات الانتقال الديمقراطي أو المراجعات الضخمة لملفات حقوق الإنسان أو بعد ثورات تطيح بأنظمة تشيّد السجون بأكثر مما تشيّد المدارس والمستشفيات، تظل السياقات الأفضل لعشاق هذا الجنس الأدبي لمزيد من الكتابة والإنتاج والابداع.

أدب السجون في العالم العربي عموما، وفي تونس خصوصا، ضل لزمن طويل حكرا على الرجال، ورغم أنّ الكتابات في هذا الموضوع اتخذت أشكالا كثيرة منها الأدبي ومنها الوثائقي، فإن السيرة الذاتية التي تستند إلى الذات (الذكر) كانت دوما محورا رئيسًا.

يظهر ذلك ضمن الاجتهادات في كتب المذكرات أو اليوميات أو السيرة الذاتية أو السير الذاتية الروائية أو في الريبورتاجات والبورتريهات والسير الغيرية، فجميعها تقريبا تحمل بصمات صاحبها (الذكر) الذي يسرد معاناته من منطق ذاتي يتأثر بالأيديولوجيا أيما تأثّر، لكنّ هذا لا يلغي وجود استثناءات بارزة مع نوال السعداوي في كتابها “عنبر غير السجينات” و”مذكراتي في سجن النساء”، أو مع زينب الغزالي في “أيام من حياتي” أو مع المغربية مليكة أوفقير صاحبة “السجينة”، إذ أن فعل الكتابة الذي ينسب دائما للرجل في حين ينحصر حضور المرأة كمجرد موضوع في بعض الكتابات الرجالية، لم يعد يصمد أمام التحوّلات التي تشهدها المجتمعات العربية الحديثة في بناها وفي منظومة القيم التي تحركها.

بيت العناكش

في روايته الأخيرة، يحاول الكاتب التونسي سمير ساسي أن يطرق أبواب سجن النساء ليتحدّث عن معاناتهنّ بسبب أساليب سادية مريعة لم تحترم ضعفهن ووضعهنّ. و”بيت العناكش” (140 صفحة -عن منشورات دار سوتيميديا بتونس) صدرت حديثا وتحوم أحداثها حول قصة فتاة تونسية تحمل اسم “جميلة” اعتقلت في عهد نظام زين العابدين بن علي (1987 – 2011) وقضت في السجن سنة كاملة أصيبت إثرها بمرض خطير أدى إلى وفاتها بعد خروجها من السجن.

“جميلة” ورفيقاتها في المعتقل، خديجة ومريم وليلى ومنى ونور، يختزلن عذابات النساء السجينات في تونس، ويختزلن حالة الاهمال الصحي الذي تعاني منه المعتقلات. أما تسمية “بيت العناكش” فهي كنية لغرفة في السجن النسائي بتونس، توضع فيها السجينات اللواتي صدرت ضدهن احكام بالإعدام والمؤبد من سجينات الحق العام. وقام نظام بن علي بحشر السجينات الإسلاميات في تلك الغرفة للتنكيل بهن، وبطلة الرواية واحدة من ضحايا تلك الغرفة الرهيبة، إذ لم تتحمّل بسبب صغر سنها أثر تلك المعاناة فماتت وفتحت جرحا يسرده الكاتب سمير ساسي من خلال تتبع شهادات حية لعدد من السجينات وقام بصياغته بأسلوب أدبي في محاولة لـ”تجميل القبيح”، على حدّ تعبير الكاتب.

“العناكش” في اللهجة التونسية جمع لـ”العنكوش” وتعني أعناق الطيور، وعادة ما يتعفف البشر عن أكل هذا الجزء من جسد الدجاج أو الديك الرومي، إذ يكون من نصيب القطط والكلاب، وفي التسمية دلالة وحشية على أن من تُحشر في تلك الغرفة ستُعامل معاملة الحيوانات التي تسلّم رقابها للذبّاحين.

شخصيات الرواية نساء في مجملهنّ ومن حضر من الرجال كان دوره ثانويا اقتضاه مسار السرد لا غير، وفي الرواية شهادات عن التعذيب والاغتصاب والانجاب بعد الاغتصاب وشهادات مروعة عن التحرش بالسجينات المفرج عنهن والخاضعات للمراقبة الادارية ووصف لمقاومتهن وتضامنهن أمام صنوف الألم والقهر والمعاناة.

وسمير ساسي باحث جامعي حاصل على الماجستير في اللغة والآداب العربية والحضارة، وعلى الدكتوراه في نفس التخصص من جامعة منوبة تونس. له العديد من البحوث والدراسات والمقالات الفكرية حول التراث والأديان. أمّا رواياته فهي: “خيوط الظلام” (2010)، “برج الرومي أبواب الموت” (2011)، و”بيت العناكش” مؤخرا.

ومنذ رحيل نظام بن علي، برزت للعلن الفظاعات التي ارتُكبت في السجون ضدّ أمهات وزوجات وبنات المساجين السياسيين، بعضهن تكلمن مباشرة بجرأة وألم عما تعرضن له من تعذيب وانتهاكات ضمن مقابلات نظمتها هيئة “الحقيقة والكرامة” التي كُلفت بملف العدالة الانتقالية في تونس.

وفي ديسمبر من العام الماضي، تحدثت رئيسة “هيئة الحقيقة والكرامة” سهام بن سدرين على أثير اذاعة محلية عن ملف من أكثر الملفات التي “أثّرت فيها شخصيا”، ويتعلّق الأمر بطفلة تبلغ من العمر 9 سنوات تعرضت رفقة شقيقها الأصغر منها سنا لاعتداءات جنسية متكررة من قبل أعوان أمن، الذين اعتقلوا والديهما خلال حكم زين العابدين بن علي.

قالت بن سدرين: “اعتقلوا الأب والأم ثم عادوا الى منزلهما واغتصبوا الطفلة وشقیقھا، ثم تعودوا على ذلك وكرروا اغتصابهما لفترة طويلة، ما تسببت في إقدام الطفل على الانتحار، فيما ظلت شقيقته تعالج في مستشفى للأمراض العقلية”.

راوٍ عليم…أنسنة التجربة الأليمة والمرور بها من الشخصي إلى الإنساني

في روايته السابقة “برج الرومي”، انطلق سمير ساسي من تجربة خاصة في سجون النظام التونسي، ليروي قصة السجين المعارض “فخر الدين” وهو المؤلف نفسه، لكنّ في “بيت العناكش” يختار ساسي الآخر المختلف ليتحدث عنه سواء المختلف من جهة الجندر أو من جهة التجربة، وهو ما اقتضى السؤال والتدقيق عن هذا التحوّل البارز.

يقول سمير ساسي لـموقع “قنطرة”: “هذا سؤال مهم وفيه تدقيق عن مفهوم الابتعاد، هل فعلا ابتعدت عن تجاربي الشخصية، وهذا يتطلب تحديد معنى الشخصية هنا فإن كان معناه ما تعلق بذاتي بصفتي المباشرة، فالإجابة بنعم، لأنني لم احضر في بيت العناكش كفاعل رئيس بل كراوٍ عليم، وإن كان بمعنى غير مباشر فأحداث الرواية تعنيني بصفتي كنت فاعلا ضمن هذه التجربة، سجينا ناله ما نال أبطال الرواية فقد كنت جزءا من تجربتهم بصفتي التنظيمية /الجماعية أو بصفتي السجنية التي لاحقني جراؤها أثر مما مس شخصيات بيت العناكش عموما”.

ويضيف: “من جهة أخرى ربما تفسر هذه المحاولة برغبتي في أنسنة التجربة والمرور بها من الشخصي إلى الإنساني نظرا لأن ما مسنى كان ضد الإنسانية وحصره بشخصيتي قد يقتله رمزيا و ابداعيا، أما ما تعلق بالجنس فكان تركيزي على المرأة لأنها تجربة خاصة تحف بها معيقات كثيرة أبرزها أنها لم تحك من قبل، ربما بسبب غياب أقلام نسائية تبدع في رواية هذا العالم ولكن في اعتقادي لسبب أكثر أهمية وخطورة، وهو عامل ثقافي اجتماعي ليس من السهولة تجاوزه إلا بأسلوب يحقق التوازن بين الحقيقة والواقع وأقصد بهذا العامل الحرج الذي تلقاه المرأة السجينة في مجتمع محافظ لمجرد أنها سجنت فضلا أن تكشف عما لاقته من انتهاكات تمس الشرف… هذه ليست بالمسائل الهينة حتى تتجرأ المرأة على البوح بها وتحتاج إرادة عظيمة وتحديا جبارا من الضحية لفعل ذلك ولعل إعادة صياغة البوح أدبيا كان مساعدا على البوح وتجرؤ الضحايا على الادلاء بشهاداتهن”.

“تجميل القبيح”

قبح الممارسات التي يسلطها النظام ضد السجينات يتجاوز الخيال بكثير، ومن ذلك تقنية “الفونتوز” التي تستعملها السجّانات ضد السجينات، وتقوم على شد أثدائهن حتى تتعفن فتهاجمهن الأمراض، وهي تقنية لا تقل بشاعة عن تقنية “الدجاج الروتي” أي وضع الدجاجة المكبّلة للشواء.

وفي جزء من الرواية يرد المقطع التالي: “صاحت ونزفت حتى انبعثت منها رائحة كريهة وارتفعت حرارتها وازرورق جسدها وتورم كله كتورم ثديي منى وهما يُشدّان بلاصقة بلاستيكية يعرفها أهل القرية العرب بلغة الفرنسيس الذين أناخوا ذات غفلة في بلادهم سنين عددا فأوعزوا لهم أن اللاصقة اسمها الفونتوز فصارت من يومها اسما مستعملا وآلة يلجأ إليها الطبيب حين يصعب عليه إخراج الجنين من بطن أمه، لكن الحرس القديم الذين تزيوا بزي الأطباء لجؤوا إلى اللاصقة يشدان بها ثدي منى وقد أعيتهم أن تنطق بما يريدون، شدوا الثدي شدا وجذبوه جذبا، وسلوى تنظر وتتعجب، تركوا نجاة تتعفن ولم يساعدوها ووضعوا الفونتوز على ثدي منى حتى هجم عليها السرطان فلم يبق للفنوتوز مكان يلتصق بها .. ذهب ثدي منى كما ذهب توأما نجاة.. عندها صاحت سلوى وأخواتها وهن يشممن ريحا كريهة تنبعث من نجاة النازفة كلنا نجاة.. نموت معها أو نحيا معها”.

ويعلّق الكاتب لـ”قنطرة” بالقول: “أن تتحدث بفظاعات السجن لغيرك تحتاج إرادة شخصية قوية منك للبوح ونفسا عظيمة من السامع /القارئ تجعله قادرا على الصبر وأنت تقص عليه تلك الفظاعات بشكل مباشر جاف كأنك تلقمه حجرا ناريا تلو الحجر”.

يضيف: “ليس كل الناس لهم القدرة على الصبر في مثل هذا الموضع، أنا نفسي برغم أنني عشت التجربة أجد أحيانا صعوبة كثيرة في أن أسمع هذه الفظاعات تحكى إليّ، بل أحيانا أعجز أن أقرأ قصة أو رواية عن السجن وعذاباته، لذلك كنت أبحث عما يساعدني على تسهيل عملية نقل رواية تلك الفظاعات إلى القارئ، لذلك كان الأدب والرواية أسلوبا يخفف من وطء المباشراتية في القص حتى يقبل القارئ على الاستماع ولا تطمس الحقائق”.

أيديولوجيا وسياسة وفكر

عندما نتحدث عن “أدب السجون”، فنحن نتحدث عن جنس أدبي مازال يثير اشكالا في التصنيف بين النقاد والمهتمين، فبعضهم يمزج في كثير من الأحيان بينه وبين الرواية حينا وبينه وبين السير الذاتية أحيانا أخرى، لكن نصوص هذا الجنس الأدبي تعجّ بالكثير من المعاناة الإنسانية والحوارات الفكرية والمراجعات والتلاقح الايديولوجي وتصفية الحسابات أيضا، وهذا الحراك الفكري والسياسي لن يكون بعيدا أو بمنأى عن الفترة التي عاشها المؤلّف وأثرت فيه وأثّر فيها.

يرى الدكتور محمد التومي في كتابه الحديث “أدب السجون في تونس ما بعد الثورة بين محنة الكتابة وكتابة المحنة” أن الرواية هي الوعاء الأنسب لرصد الواقع وتعقيداته وهي من المداخل الهامة لفهم التحولات الاجتماعية والمتغيرات السياسية التي عاشها المجتمع التونسي باعتبارها إرهاصات لاندلاع الثورة التونسية التي عرّت الوجه القبيح للنظام.

ويرى التومي في كتابه الذي صدر العام الماضي أنّ ما عاشه المجتمع التونسي في ظل نظام الفساد والإفساد، يقتضي تحولا في الأدب وفي نواميسه ولاسيما في الرواية… إنه يعلن ولادة نمط جديد من الكتابة ويبشر بقدوم الرواية السجنية التي تتسم بالجرأة في تعرية واقع موبوء بشكل صادم، لم يكن متاحا من قبل.

ويرى الكاتب أن الرواية السجنية والسير ذاتية ذات الصلة بالسجناء أو بمحيطهم هي تكريس للواقعية في الأدب وتعميقها، لأنها أكثر مرجعية للتجربة الإنسانية من لغة سائر الأنواع الأدبية، فهي تحقق مجالا تعبيريا يتخذ من السرد تفاصيل اليومي والمعيش إبان فترة السجن القاسية، قاعدة في تشكيل مواقفه تجاه الواقع والمجتمع والتاريخ دون التصادم معها أو رفضها.

ويقول الروائي سمير ساسي: “لست مع الربط الآلي بين تصفية الحساب مع التجربة الأيديولوجية والخروج من السجن برغم أن حقائق التاريخ لا تسندني كثيرا فجل من مر بالسجن قام بمراجعات جذرية قطعت مع انتمائه الفكري أو الحزبي كما أن المراجعات نفسها -وهي ضرورية – لا تعني آليا تصفية الحساب”.

ثمة اعتبار آخر وجب الأخذ به هنا فليس كل من مر بتجربة السجن له رغبة في التخلص منها مع اختلاف في مستوى التعامل مع هذه التجربة فبعضهم وهم قلة يعجزون عن التخلص منها وينتهون إلى سجن أنفسهم داخلها فينتهون رغم وجودهم المادي والبعض الآخر يجعلها مصدرا للتوظيف افتخارا أو مزايدة ولست منهم، يقول ساسي.

ويؤكد صاحب “بيت العناكش” أنه ينتمي إلى الصنف الثالث الذي يحاول أن يتجاوز السجن فلا يكون معيقا له عن الاندماج في المجتمع والبناء والفعل وفي الوقت نفسه يكون السجن محفزا للتفكير في آفاق أرحب ورؤية مختلفة لذلك كانت الرواية وجها من وجوه هذا التوجه.

ويختم بالقول: “لك أن تسميها تصفية حساب من باب المجاز لا من باب الحقيقة، فالسجن لن ينفصل عنك ولو خرجت من جلدك كما تقول العرب، لكنك قادر على تلطيف علوقه بنفسك، وفي في الواقع وهذا ما أسعى إليه، أحرر نفسي واستثمر التجربة وأرنو إلى المستقبل”.

وكان تعلّق ساسي بالمستقبل في روايته واضحا، خاصة من خلال الربط الذكي والحالم في ختام روايته “بيت العناكش” بين شحنة الألم والتراجيديا ورائحة الموت من جهة، وبين “ديسمبر الأصمّ” الذي يحيل إلى ثورة 17 ديسمبر تاريخ حرق محمد البوعزيزي لنفسه، مؤذنا بانطلاقة جديدة لتونس ومحيطها العربي.

..”لم يغضب (والد بطلة الرواية جميلة) وخرج إلى الشارع في ليل بارد نصف عار يرشح أنفه بماء الزكام ويبحث عن الصوت الذي غادر الغرفة وملأ أذنيه وجره إلى الشارع القفر بعد منتصف ليل ديسمبر الأصم …كان ديسمبر أصمّ كما تقول أمي فليتني كنت مثله … تمنى وتبع الصوت يبحث عنه كلما سار خطوة اشتد البرد وزاد ماء الزكام في أنفه”. (مقتطف من الرواية).

  • Social Links:

Leave a Reply