أحمد محسن – ضفة ثالثة :
إذا كانت العمارة جسدًا، وكانت الشرفة ابتسامتها، فإن توصيفًا مثل هذا بإمكانه إحالتنا، بطريقةٍ ما، إلى نيتشه، الذي لطالما رفض أن يكون المظهر ضدّ الحقيقة. فهما بالنسبة له شيء واحد. لطالما كانت الكينونة أحد مصادر القلق في فلسفته. كذلك هي الشرفات أيضًا في وجه بيروت: مصدر للقلق، مصدر للطمأنينة. دليل إلى الحياة، ودليل إلى الموت.
من على هذه الشرفات المختلفة، كانت تُنثر الورود على الطرقات احتفالًا بالأعراس. ومن هناك، أيضًا، يهطل الأرز على التوابيت في طريقها إلى الأبدية. الفرح والحزن. المكان واللامكان. تلك هي وظيفة الشرفة الأنثروبولوجية في المدينة: التعبير عن القلق، بوصفها مكانًا يتحرر منه الخارج إليه من فرط الخصوصية في المنزل، وتبقى العلاقة مع الأسفل مشروطةً بالعلو. وقد يكون التعريف أي شيء آخر، لكن الشُرفة لطالما كانت تمثيلًا للقلق، أو التفافًا حول درجاته. في الدرجة الأولى، نتحدث عن التمثيل الوجودي للقلق، بوصفه استجابة الوعي الواضحة للحرية. في الدرجة الثانية والثالثة، الشُرفة البيروتية هي تعبير متواصل عن القلق. القلق من القناص في الحرب، من احتراق الشارع بعد المعركة، من الجهة المقابلة، من اختفاء الآخر، تعبير عن الخوف والحاجة، عن التمسك بإمكانية حدوث علاقة دائمة مع ذلك “الجحيم”، رغم الخوف والمشاعر المتناسلة. الشرفة هي تأكيد لوجود المدينة ونجاتها.
بيت بيروت: القطيعة مع الشارع
تلك كانت وظيفة الشرفة، لكن المظهر ينكفئ. يتراجع إلى الداخل، بينما تغرز الحقيقة أنيابها في المشهد. تغلق شرفات المدينة بالزجاج المقوى، وينسحب المنسحبون إلى داخلها تحت ذرائع عدة. العمارة العشوائية لا تعترف بالعلاقة مع المحيط، لأن ساكني العشوائيات يبحثون عن مأوى، ولا يبحثون عن مزيد من العلاقات. هذا الانكفاء، في أماكن كثيرة من بيروت، يدل بوضوح، على رغبة جدية بقطع العلاقة مع المدينة، وعدم الحاجة إلى النظر. نوع من “إقصاء ذاتي”، يتواتر ويتخذ أشكالًا كثيرة، تفضي في نهايتها إلى القطيعة مع الشرفة.
بدأت القطيعة منذ زمن وهي تتجدد. سيلاحظ الناظر إلى “بيت بيروت” في صوره القديمة اختفاء شيء ما. تم تفكيك الدرابزين. بقي مكانه موجودًا في الصور، لكن في المبنى الذي نعرفه اليوم، لا يوجد شيء. نبحث عن الدرابزين، أي القطع الحديدية التي تسيّج الشرفة، وتعلن عن جزء من هوية المنزل المستعدة للتعرف على هوية الشارع كاملًا. كانت وظيفة الشُرفة، تحديدًا هناك في “بيت بيروت” الواقع في منتصف المدينة، بين شطريها الشرقي والغربي، هي تبادل الوقت مع العابرين، ومع المتسمّرين في أمكنتهم، وإعلان انتماء البيت إلى الطريق، وانتماء الطريق إلى البيت، كما تنتمي الغرف إلى بعضها بعضًا، وبالتالي، انتفاء الصفة الكيانية عن كل شطر من شطرين. إنها مدينة واحدة، يمكن النظر إليها من شرفة مستديرة، أو مستطيلة، لكنها ثابتة. مدينة يمكنها أن تبقى في مكانها، بينما يأتي الجميع ويذهبون من حولها.
اختفى الدرابزين. وباختفائه تكرّس الشطران. انقسم كل شطر منهما إلى شطور، تتفاوت في تصنيفاتها بين الديموغرافيا والطبقة. ولم تعد مواجهة التغيرات ممكنة، من ذلك المنزل بالذات، لأن الشرفات هي هياكل. ورغم أن المبنى أعيد افتتاحه كمعرض، ولم يعد ورشة شاغرة، لن تجد شخصًا هناك يخرج على الشرفة، لأنه لا يوجد إلا هيكل شرفة، ولا يوجد درابزين. ولن تجد ظلًا خلف النوافذ الدخيلة على روح المبنى، التي أضيفت إليه متسلحة بزجاج داكن، يبدو أن القصد منه هو التسليم باستحالة النظر إلى الداخل، أو التعرف على الخارج، على عكس الستائر التي تبقي الاحتمالات مفتوحة. هنالك نوافذ، لكنها مغلقة دائمًا، وهنالك مكان كانت تقوم الشُرفة عليه، لكن لن تجد واقفين هناك، ولن يجد هؤلاء، إن وجدوا، مكانًا يسندون إليه أيديهم.
منذ انتهاء إعادة ترميم هذا البيت، بدا واضحًا أن ثمة قرارًا واضحًا في الانكفاء إلى داخله، رغم إعلانه متحفًا لذاكرة المدينة. لكنها ذاكرة عائمة في الفراغ، ذاكرة بلا رأس. ذلك الرأس الذي يسند نفسه إلى فضاء. وكان هذا الفضاء هلاميًا لوقت طويل، قبل أن يأتي بيار بورديو ويبحث في تنظيم الفضاء (الاجتماعي)، ويكتشف أن هذا التنظيم المشيّد كبيئة متكاملة، ليس مجرد انعكاس للعلاقات بين بنى اجتماعية محددة، أو للممارسات والهويات، بل إن هذا الفضاء يعمل على توليد ممارسات جديدة، ويفرض تصورًا جديدًا للعالم. لذلك، هنالك فارق بين الشُرفة البورجوازية، والشُرفة التي نعرفها، أو الشُرفة في أساسها، ولاحقًا في تحولاتها. وإن كان البحث عن شيء ما، في الصورة، لا تجده في الواقع، لا يوجب استسهال التحسر، بل يوجب البحث في كثير من الأحيان في محاولات محو آثار الممارسة الأيديولوجية البورجوازية، التي هيمنت على تطورات العمارة وتحولاتها.
ذاكرة بورجوازية أم ذاكرة للمدينة؟
في جانب من جانب العمارة، كان للبورجوازية من بين الحواس امتياز أساسي في حاستي البصر والسمح، انطلاقًا من رفض البورجوازية نفسها لحاستي الشم والسمع. كان الشم حاسةً عمومية، لا يمكن ضبطها، ويمكن للطبقات الدنيا أن تتشاركها مع البورجوازية من الحيز ذاته، وفي التوقيت ذاته. أما اللمس، فشكل مصدرًا محتملًا للتلوث بالنسبة لهذه الطبقة، كما يخبرنا المحلل النفسي الفرنسي دومينيك لابورت. وإلى جانب تاريخ تطوري طويل، هكذا كانت الشُرفة في نشأتها امتيازًا بورجوازيًا. لكن هل يصح هذا في لبنان ونحن نبحث عن ذاكرة؟ وهل يعني أننا حين نبحث عن ذاكرة لمدينة بيروت، فنحن لا يمكننا أن نجد سوى آثار للبورجوازية؟ وهل يكفي أن نطوي التاريخ على عجل، ونفهم البحث على أنه تسوية عاجلة؟ فالعمارة ذاكرة، سواء كانت منتجًا بفعل السُلطة أم لم تكن، فذلك لا يُسقِط عنها أعمارها. نقول هذا، على عجل، والمدينة تكاد تختفي.
لسيرة التحولات المدينية، هنالك كارثة معمارية دائمًا اسمها وسط بيروت. سوء فهم طويل. التحسر ليس واردًا، لأنه ليس مفيدًا، والإجابة على سؤال “ما العمل” غير ممكنة على عجل.
كل ما يمكننا فعله الآن هو الوقوف على الشرفة والتأمل. في العشرينيات، بدأت اللمسة الكولونيالية تظهر في العمارة اللبنانية من الشرفات. ولذلك، كما يتضح في صور من الأرشيف لبيروت، خلال العقد الأول من الانتداب، بأن نقوش الدرابزين الحديدي كانت تشبه النقوش التي في باريس إلى حدٍ ما، ولم تكتسب هوية خاصة فيها إلا بعد الاستقلال. لكن، لم يعد هنالك أي معنى للشرفة في وسط بيروت، بعد إعادة إعمار المدينة، بفقدان إمكانية التواصل، الناتج عن فقدان السكان، وبقية القصة التي يعرفها متابع الحد الأدنى من تشويه بيروت. وتاليًا، لما فقدت النقوش قدرتها على التحدث، وفقد الدرابزين دوره السيميائي. ولكن إذا رجعنا بضع خطوات إلى الخلف، ومشينا بخط مستقيم من ساحة الشهداء إلى الخلف، عكس اتجاه البحر، فسنمر تباعًا بشارع الحانات الذي مات، أي مونو، وسنصل إلى المتحف مرورًا بطريق الشام، حيث حافظت الشرفات على تصاميم أكثر بساطة، لسكان ما زال يمكنهم الادعاء بوجود أثر ما لبورجوازية ما في بيروت، بحيث أضيفت إلى شرفاتهم مواد إضافية، مثل الباطون والحجر.
يمكننا متابعة الاستنتاج هنا بأن وظيفة “البلكون” كانت أن تقيم عالمًا فاصلًا بين المنزل وبين الخارج، بين الخاص وبين العام. أن تكون برزخًا. لكن هذا ما نعرفه عنها اليوم. لقد ظهرت في البداية، لكي يتمكن البورجوازيون من النظر، ولكي يُنظر إليهم، على أن يكونوا فوق، ويكون الناظرون تحت، فلا يُلمَسوا، ولا يمكن لمسهم. عندما ظهرت الشُرفة كانت اكتشافًا ثوريًا، يمكن أصحاب الامتياز المشاركة في حياة الشارع، ولكن ضمن شروط خاصة. لاحقًا تحلل هذا الامتياز الطبقي، وبقيت العلاقة بين المدينة وأهلها بتراجع الأثر البورجوازي.
وإذا تابعنا الطريق نفسها، فسنصل إلى بدارو، وهو الشارع الذي كان يرتاح فيه التجار السوريون القادمون إلى بيروت، وسنلاحظ هناك أن الشرفات ما زالت على علاقة مع سجلاتها الفنية. وفي النهاية، سنصل فرن الشباك، حيث تلعب الهوية الطبقية دورًا هامًا في إعادة الاعتبار للشرفة، بوصفها مكانًا للتواصل، لبناء علاقة آمنة ومتوازنة مع الخارج.
هنالك ذرائع كثيرة لانكفاء الناس عن الشرفات في بيروت اليوم. رائحة النفايات تتصاعد. الصيف لم يعد يأتي من البحر، بل صار يأتي من الصحراء. الجيران قلقون مثل الأبنية نفسها. يسمعون صوت الرابع من آب حتى اليوم. لعل المهندسين في بيروت، في فترة يحتاج تحديدها إلى متخصصين، صاروا مهووسين بالنسخ، أو بكلمات أدق صاروا مهووسين بالتحديث، من ضمن سلة الشروط التي تحدد شكل ومضمون المدينة النيوليبرالية. لكن يمكن الحديث، من الناحية المعمارية، عن أجيال من الشرفات. منذ أكثر من قرن، ظهر الدرابزين القابل لاستيعاب النقش والزخرفة، ومع الوقت اكتسب صفته كذاكرة تنقسم إلى اتجاهين. الاتجاه الأول عام، فهو ذاكرة للمدينة عمومًا، لأنه ركن من أركانها. والاتجاه الثاني خاص، بالمعماري الذي يعبّر عن نفسه، وعن علاقة المكان بالبناء عبر التصاميم، ولا سيما نقوش الدرابزين. وحسب المعماريين اللبنانيين، هنالك روح واحدة، أو ما يمكن أن نسميه روحًا، يجمع بين الجانب التراثي في الشرفات البيروتية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، استطاع الصمود على نحوٍ ما حتى الستينيات. سنجد نسقًا، يتوزع على أنساق، بين دائرتين رئيسيتين. الدائرة الأولى، هي الحمرا، غرب بيروت، وتضم مناطق، مثل كركول الدروز، ورأس النبع، والوتوات، والقنطاري، وتحوي، أيضًا، مناطق شعبية يمكن الاستدلال إلى أصالتها في المكان من شرفاتها. وهنالك الدائرة الثانية، التي تضم الأشرفية والجمّيزة، ويمكننا المتابعة باتجاه مار مخايل وبدوي، وحولهما ما نجا من الدرابزينات الوديعة في الرميل والمدور. كانت تلك فترة الحداثة في بيروت، أو ذروة هذه الفترة، التي استوت بعد ذلك في حرب أهلية ما انفكت تتناسل خطابات وأزمات حتى اليوم.
في الجمّيزة، الخطوة على الشرفة تعني الابتعاد أكثر مما تعني الاقتراب. الابتعاد عن صخب الشارع الذي صار هادئًا بعد انفجار الرابع من آب. الشرفة نظرت ورأت. العصف اقتلع بصر المدينة من شرفاتها. الآن، صارت تعني الابتعاد عن ذكرى الانفجار، وتعني أيضًا الاقتراب منه. تعني الخوف. لم تعد المنازل قادرة على التقدم في العمر، ولم يعد الدرابزين سبيلًا لاكتشاف أعمار المباني. ليس الأمر بهذه السهولة بعد الترميم العشوائي، أو بعد فترة طويلة من اللا ترميم. ومنذ فترة طويلة، ومنذ بدأ الإحلال الطبقي يتمدد على أطراف بيروت القريبة من البحر، تحديدًا في الجمّيزة، ومار مخايل، صار من الصعب العثور على شخص يخرج على الشرفة، وهو يضحك، ويقول لجاره صباح الخير. وفي حال عثر على ذلك الشخص، بعد محاولات، فقد يقولها بالأجنبية، بتكلفٍ، مهما حاول التطبع مع صفات المدينة. ليس لأن المدينة غير ودودة مع الأجانب، بل على العكس تمامًا، فهذه بيروت مدينة البحر. لكن الهوية الطبقية تبدأ من على الشرفة، ولا تنتقل إليها.
يذكّر المشهد على نحو ما، بما يقوله لويس ألتوسير عن المساحات، وهو للمناسبة لم يكن كثير الكلام عن مثل هذه الأمور، بأن الداخل إلى مساحة يهيمن عليها الفضاء الرأسمالي يخضع للاستجواب فورًا. أبرز شروط هذا المكان هو التخلي عن المدينة، وعدم الانحياز لها في أي شكلٍ من الأشكال. كان هذا النقاش كله ممكنًا قبل أن تختفي المدينة. بعد الانفجار، من على الشرفة، تحديدًا، صار العثور على بيروت أمرًا شاقًا.
Social Links: