م. بسام أبو طوق – الأيام:
أولاً: فرضية ان التجديد السياسي شرط وضرورة مسبقان لإعادة الإعمار في سورية.
عاشت سورية عقوداً من الاستقلال الأول عام 1918، الى الانتداب الفرنسي 1920، فالمقاومة والثورات والمفاوضات وكلها تكللت بالاستقلال الثاني 1947، وحتى بدأت الانقلابات العسكرية وتدخل العسكر في السياسة 1950.
كانت عقوداً واعدة ومزدهرة، حافلة بالنشاطات، عبرت عن حيوية الشعب السوري، وإمكاناته الفكرية والثقافية والاقتصادية.
لكن شهية العسكر للاستيلاء على مقاليد السلطة، والتدخلات الدولية الخارجية، وتحول المسارات الوطنية الى دكتاتورية وفساد وإفساد، ونزوع الى الفوضى والتسلط، أدى الى احتباس التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والى انغلاق صمامات الإصلاحات المقترحة، ودفع الى انفجار وتصاعد حراك سياسي اجتماعي، طالب بالحرية والكرامة.
إن فشل القوى المحلية في إدارة هذه الأزمة، وتدخل الدول الكبرى الإقليمية والعالمية، أدى الى الوضع الراهن؛ بلد مدمر ومقسم، ومجتمع غير متوازن، وانقسامات قومية ومذهبية، وقوى أمر واقع عسكرية، ما أدى الى
انتشار الفساد والإفساد والجهل والتجهيل، وعودة منازعات الماضي السحيق، وهيمنة تيارات تقليدية بشعارات وواجهات ليس لها أصل او جذور.
كما أدى الى خروج تقرير المصير من ايدي السوريين، بانتظار تدخل الأمم المتحدة لضبط الفوضى العارمة على أقل تقدير.
إن أي محاولة لإعادة اللحمة الى المجتمع، ومعالجة أسباب الفوضى والانقسام، تتطلب تجديداً سياسياً للحكم والإدارة، ووضع حد لسيطرة قوى الأمر الواقع، والاحتلالات الأجنبية، وبناء حكم تمثيلي مؤسساتي دستوري وتنفيذ القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن رقم 2254.
تكلفة الإعمار
التقدير الأولي لإعادة الإعمار يبلغ 400 مليار دولار، هذه الكلفة الهائلة تتطلب تنظيماً دقيقاً وجهوداً دؤوبة وإدارة سياسية اقتصادية اجتماعية موثوقاً بها وتوظف لمصلحة الشعب السوري بكافة مكوناته.
ان الفوضى والفساد لا يتناغمان مع إعادة الإعمار، فهما نتاج بيئة سياسية شائهة، يجب استئصالها واستبدالها ببيئة طبيعية إدارية وقانونية.
ثانياً: مآلات التجديد السياسي
نشهد الآن تقارباً بين تيارات سياسية متعددة، لجهة الحاجة الى القرار الوطني المستقل، في الوقت الذي يستمر فيه التدخل السياسي والعسكري الخارجي وفي اقتطاع مناطق النفوذ، وهي تريد ثمناً لهذا التدخل، على شكل امتيازات سياسية وأمنية واقتصادية. إن أي حل سياسي لهذا الاشتباك الإقليمي والدولي، يقتضي إدارة سياسية واعية وملتزمة بالواقع الجيوسياسي والتاريخي، ومدعومة بتمثيل شعبي وثقة واحترام.
ثالثاً: تطوير مفهوم إعادة الإعمار من مفهوم اقتصادي إنشائي الى مفهوم أكثر شمولية وتنوعاً.
ان البنية التحتية المدمرة من طرق وجسور ومحطات كهرباء ومياه ومبان ومدارس ومستشفيات تحتاج لإعادة إعمار، هذا صحيح.. لكن إعادة الإعمار تحتاج الى إعمار الفكر والثقافة والتربية والتعليم والمذاهب والتنوع،
فالمدارس والجامعات تحتاج لمراجعة المناهج، وأساليب الإدارة والبحث والتدريس، لما هو أكثر حداثة “وأكثر معاصرة”، وأكثر تطوراً”.
ومراكز التوجيه والدعوة الدينية تحتاج لرفدها بدعاة وإدارة، أكثر وعياً وانفتاحاً واخلاقاً. والصندوق المالي، يحتاج الى مسؤولين ومديرين، أكثر نزاهة وخبرة ومهنية، والى استعادة الشباب والخبرات والكوادر، الذين أرغمتهم الحرب والتسلط بشقيه الأمني والظلامي، على الهجرة. من أجل الاستثمار الأمثل للموارد البشرية والاقتصادية كما يتطلب تنشيط الفكر والثقافة عبر إعادة هيكلة وصياغة وسائل الإعلام والصحافة.
ويتطلب استعادة الصياغات الدستورية والقانونية والمؤسساتية، من حيث بدأت في المؤتمر السوري عام 1920 وتوقفت مع الانقلابات العسكرية.
رابعاً: نماذج تاريخية سيئة لإعادة الإعمار يجب تجنبها بوضع الأنظمة والضوابط، وتتلخص بالرقابة المحلية والدولية المحايدة، من أجل قطع الطريق على تجار الحروب والكوارث، الذين لا يتورعون عن هدم التراث بحجة إعادة الإعمار.
ومطلوب الانتباه والحذر الى ان لا تؤدي مشاريع إعادة الإعمار، الى إعادة توزيع السلطة والثروة، على مجموعات نخبوية اقتصادية وسياسية جديدة، بما يشبه توزيعاً لغنائم الحرب.
والانتباه والحذر الى ألا تؤدي مشاريع إعادة الإعمار، الى مزيد من التهجير ومزيد من التحكم بالمسارات السياسية، ومزيد من الفساد والانهيار الاجتماعي.
من المفترض استبعاد كل من ساهم في أزمة ما قبل الحرب، التي أدت الى انقسامات اجتماعية ومذهبية عميقة، وبنية تحتية متهالكة، وفوضى وتخلف إداري. لا يمكن البدء بإعادة الإعمار، قبل تحرير البلد من الإرهاب والميليشيات والاحتلالات الأجنبية والفساد، كي يمارس الإشراف والضبط على الانحرافات والتعديات المتوقعة، هذه المهمات على عاتق منظمات المجتمع المدني، والمنظمات الأهلية ونشطاء حقوق الإنسان والدفاع عن البيئة الذين يتوجب حمايتهم ودعمهم دولياً وأممياً باعتبارهم الضمان والأمان، لتعزيز التماسك الاجتماعي وتضميد الجراح، وتعزيز العدالة الانتقالية.
خامساً: دروس من تجارب سابقة لإعادة الإعمار
أ – الأخذ بالاعتبار لعلاقة القرية بالمحيط الزراعي والرعوي، وعلاقة المدينة بالأنهار والسواحل، وعلاقة القرية بالمدينة.
ب –الحفاظ على الحيز العام – الساحات- أماكن التجمع- الأرصفة -الحدائق، الملاعب.
ج – المفهوم الإنشائي والاجتماعي للبنية التحتية وهي: مستشفيات – مدارس – جامعات – بنوك – مؤسسات حكومية – مؤسسات مدنية – مؤسسات أهلية – مؤسسات دينية – ملاعب -نواد ثقافية ورياضية – شبكات مياه -كهرباء -طرق- جسور -سدود.
د- إعادة إنشاء بنية تحتية بما يتماثل مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية، المدنية والقروية، والابتعاد عن استعمال أموال إعادة الإعمار لبناء ناطحات سحاب ومولات.
سادساً: من خبرة التمويل والإشراف الدولي. تجربة شخصية عايشها كاتب هذا البحث:
في الثمانينيات، قدمت ألمانيا قرضاً الى الحكومة السورية، لتنفيذ مشروع حيوي ورائد، هو مشروع تجفيف واستصلاح منطقة الغاب التي كانت عبارة عن شبه مستنقعات، تقع في ريف حماة.
المشروع كان رائداً وحديثاً بامتياز، ويستهدف إحداث نقلة اقتصادية واجتماعية كبيرة للمنطقة. لكنه ضاع بين ايدي الفساد والافساد، وقد حاولت الحكومة الألمانية السيطرة على الهدر بإنشاء إدارة لهذا القرض، تصرف الدفعات المالية على أساس مستوى التقدم في انجاز المشروع، ولكن هذا الإجراء تم افشاله بسبب السيطرة السياسية على الوظائف الحكومية والجهات الاشرافية. وللأسف فقد تداعى سدّا “زيزون” و”قسطون” عمادا هذا المشروع، بعد مرور أقل من عقد.
سابعاً: استخلاص النتائج
بالإضافة الى ضرورة إطفاء الحريق الناشب في اهم منطقة في الشرق الأوسط، والذي بدأ يتمدد خارج حدوده ويتحول الى قنبلة مزمنة.
إضافة الى المسؤولية الدولية والأممية عن كارثة شعب اسير وممزق.
فان مصلحة الشعب السوري، تتطلب حكماً سياسياً ديمقراطياً مدعوماً بدستور وقانون وإشراف دولي واممي (الأمم المتحدة).
ويتطلب الاستفادة الى أقصى قدر، وأوسع مجال، من القوة الاقتصادية والسياسية للرأسمال الوطني، وهذا لن يتم الا بحكم منتخب يمثل كافة تيارات الشعب السوري، ويراعي في مساندته ودعمه، حصول مكوناته، على الأهلية والكفاءة والنزاهة والخبرة السياسية والإدارية والعلمية.
إن الدعم المالي والإداري والسياسي من الداخل والخارج، يتطلب تغييراً سياسياً إدارياً ودستورياً يوحد السوريين ويمثلهم، ويتطلب بيئة آمنة مستقرة ومطمئنة. مطلوب إعادة مفهوم قبول واحترام الحياة والحرية وقبول الآخر وحق الاختلاف والابتكار والتنوع، ومحاصرة ورفض مفهوم الاستهلاك المفرط الجائر على حساب ضعف الإنتاج والموارد، ومطلوب إعادة تقييم مفهوم حماية البيئة الطبيعية، والحفاظ عليها وإغنائها ومقاومة التلوث.
Social Links: