عمر قدور- المدن:
لعلها المصادفة لا أكثر أن ينشر الديبلوماسي الأمريكي فريدريك هوف في مجلة نيولاين ماغازين وقائع لقائه ببشار الأسد في نهاية شباط 2001، بينما تنشر واشنطن بوست تقارير عن زعيم تنظيم داعش الحالي الملقّب بأبي إبراهيم الهاشمي القرشي. مصادفةُ نشر أسرار عن بشار والقرشي في هذا التوقيت تُتوَّج بنوعية المادة المنشورة، والصفات التي يتشاركها بشار والقرشي، الصفات التي كانت مثار دهشة الأمريكيين.
في اللقاء الذي يذكره هوف، فاجأ بشار ضيفه الأمريكي بقوله أن ادعاء حزب الله لبنانية مزارع شبعا هو ادعاء زائف، وأكد أكثر من مرة على أنها أرض سورية. هوف، القادم وسيطاً من قبل نتنياهو ليتأكد من نوايا بشار، لم يكن يتوقع هذه الصراحة في موضوع المزارع، ولا استعداد محاوره للتخلي عن حلفائه، أي حزب الله وطهران، في حال سارت مفاوضاته مع إسرائيل قدُماً.
كان في وسع بشار التحدث بلغة ديبلوماسية تلمّح إلى التخلي عن مزاعم الحزب الخاصة بالمزارع، أو استعداده لدحضها عندما تحين لحظة التسوية، وكان ينبغي أن يكون أقل استخفافاً بالحزب وبطهران وهو يبدي استعداده لخيانتهما، بل يُظهر ثقة تامة بأنهما سيلحقان به متى وقع اتفاقية سلام مع تل أبيب. إلا أنه، كرمى لطلب نتنياهو، أراد إبراز استعداده للمضي إلى الحد الأقصى، الحد الذي من المرجح أن يفوق قدراته مهما بالغ في تثمينها.
على صعيد منفصل فيه وجه شبه، كشفت تقرير واشنطن بوست عن أن القرشي “زعيم داعش” كان في قبضة المحققين الأمريكيين في سجنه العراقي عام 2008، ويذكر أحد التقارير “أن المحتَجز كان أكثر تعاوناً مع كل جلسة”، ويشير تقرير آخر إلى “أن المحتجز يقدم الكثير من المعلومات عن شركائه”. كان القرشي “على سبيل المثال” قدم معلومات سرية دقيقة للعثور على مقر سري للتنظيم، وعندما سُئل عن القائد الثاني للتنظيم تبرع برسم خريطة للمكان الذي يقيم به، وبذكر اسم الشخص الذي يستخدمه كعنصر ارتباط واتصال، وبناء على هذه المعلومات استطاعت القوات الأمريكية اغتيال أبي قسورة القائد الثاني آنذاك.
لا جديد في حالة القرشي لجهة إفشاء بعض المعلومات تحت الضغط، أو تحت المواجهة باعترافات آخرين أو بمعلومات استخباراتية موجودة لدى المحققين. الجديد هو استعداده للإفشاء بالمعلومات على نحو غير منتَظر من سجين مثله وفي موقعه، ومن دون تعرضه لضغوط تختبر قدرته على التكتم. كان القرشي بمثابة هدية للمحقق معه، لما كشفه من هويات قادة التنظيم، وربما كان في خياناته تلك نوع من تصفية الحسابات مع زملائه ومنافسيه، الأجانب منهم خاصة حيث تشير التقارير إلى أنه كان سخياً في تقديم المعلومات عنهم.
يقدّم لنا بشار والقرشي وجهاً للشبه بينهما، بسخائهما مع “عدويهما”، على حساب الحلفاء في حالة بشار وعلى حساب رفاق الجهاد في حالة القرشي. هذا الاستعداد الموجود لديهما لخيانة المقرّبين لصالح “العدو” يفنّد مبدئيتهما، فكما نعلم كان إظهار العداء لإسرائيل دائماً من العدة الأساسية لسلطة الأسد، والعداء لأمريكا والغرب في صلب الأيديولوجيا الجهادية بعد افتراقها عن واشنطن منذ طرد السوفييت من أفغانستان.
هو ليس فقط الكشف عن استعداد هذين الشخصين للتضحية بمبادئهما المعلنة، بل الاستعداد لخيانة المقرّبين. القول أن الخيانات جزء من عدة السياسة على مبدأ “عدم وجود أصدقاء أو أعداء دائمين” فيها هو قول يصح أحياناً، وتعوزه الدقة في ما يخص تحالفات دولية أثبتت رسوخها خلال عقود من الزمن. إن “براغماتية” بشار والقرشي تثير استغراب الأمريكيين الذين يُصوَّرون عادة أرباب البراغماتية في العالم، ونشر هذه المعلومات ليس فقط بهدف الاستهجان الذي ستثيره لدى جمهور المنطقة الميّال إلى ثقافة تنبذ ما تعتبره قلة إخلاص ووفاء للأصدقاء ورفاق الجهاد.
الخفة التي ظهر بها بشار والقرشي غير مقبولة أمريكياً، إذا تعلق الأمر بمسؤول محلي أمام مسؤولين أجانب. القراءة تختلف عندما يتعلق الأمر بشخصيات أجنبية، وبعد المستوى الأول للدهشة من المرجح أن يُثمَّن استعداد بشار والقرشي لخيانة المقربين منهما، بل هذه هي الصفات المفضَّلة أمريكياً لدى بشار والقرشي وأمثالهما. بهذا المعنى، لا يسيء مقال هوف وتقرير واشنطن بوست لشخصين هما في صلب السياسة الأمريكية إزاء سوريا.
ما نستنتجه من مقال هوف هو استعداد بشار للتخلي عن طهران وحزب الله، إذا أتيحت له اليوم الظروف التي كانت متاحة عام 2011، وبالطبع استعداده للسلام والتطبيع مع تل أبيب، ولهذا وقعه المؤثر أمريكياً وغربياً. أما القرشي، وفق واشنطن بوست، فهو ليس البغدادي، وكراهيته العناصر الأجنبية في داعش قد “تساعد” على التخلص منهم كما حدث في السابق، والتخلص من العناصر الأجنبية “الغربية منها خاصة” قد ينطوي على تراجع التنظيم عن استهداف الغرب؛ مَن كان سخياً أثناء الاستجواب قد يكون سخياً من خلال قنوات سرية تُفتح معه.
في تقرير آخر، نُشر أيضاً في التوقيت نفسه، يظهر بشار متصلباً في مفاوضاته مع وفد أمريكي التقى علي مملوك من أجل تحرير معتقلين أمريكيين لديه. بعض المعلومات عن اللقاء كان قد نُشر مع نهاية عهد ترامب، وقيل أن لقائد الأمن العام اللبناني صلة بترتيبه، المهم أن مطالبة مملوك برحيل القوات الأمريكية وتغيير سياسة واشنطن إزاء سوريا مقابل الرهائن الأمريكيين كانت أعلى مما يمكن قبوله، وتكشف الشروط عن تأثير طهران الحاضر في مفاصل سلطة الأسد، ورغبة الأخيرة في ترك هذا الملف للاستفادة منه في المفاوضات مع إدارة بايدن. في كل الأحوال، أن يظهر بشار “مرناً” خارج الضغط الإيراني و”متصلباً” تحته فهذا يُحسب له أمريكياً. وأن يكون متحمساً للتطبيع مع إسرائيل، متى أُتيح له القرار، فتلك “فضيلة” كبرى.
يبقى التذكير بأن إدارة بايدن لم تعلن بعد سياسة خاصة بسوريا، ولم تعين فريقاً خاصاً بها. هذه “التسريبات” قد لا تكون بعيدة عن التمهيد لسياسة لا تخيّرنا بين بشار والقرشي، لسياسة تتوخى قبولهما معاً.
Social Links: