محمد تركي الربيعو _القدس العربي
مع قدوم وباء كورونا، كان العالم العربي على موعد مع سلسلة من المقالات والأبحاث حول تاريخ بعض الأوبئة في المدن الإسلامية، وبالأخص مع الطاعون الذي كتب عنه العديد من المؤرخين والفقهاء المسلمين، وتطرقوا لآثاره، وما خلفه من وفيات كبيرة، وكيف تعامل معه الناس آنذاك، لكن الملاحظ في هذه الموجة العربية من الكتابة، أنه سرعان ما بردت همتها، على الرغم من استمرار وباء كورونا، الأمر الذي فُسر أحياناً من باب أن المواد الثقافية والتاريخية، التي تنشر اليوم في الصحف والمجلات العربية، لم تعد تعكس هموما ومشاريع يومية بالضرورة، بقدر ما باتت تقدم مادة مطلوبة ورائجة، كما أن هناك من ربط ذلك بغياب مدرسة عربية تعنى بتاريخ الأوبئة أو الأمراض، فالدراسات والكتب في هذا السياق نادرة وقليلة قبل الوباء الأخير، مما لا يساعد في تراكم الأبحاث والدراسات، واستمرار الكتابة في هذا الحقل.
ويلاحظ أيضاً في مجمل هذه الكتابات، أنها تعاملت في الأغلب مع تواريخ الطاعون بوصفها تواريخ من الأرقام والضحايا الذين سقطوا في المدن الإسلامية، وأن قسما منها أعاد نسخ المعلومات ذاتها التي كتبها مؤرخو تلك الفترة، دون أن يعاد النظر فيها، وهنا بدت وظيفة المؤرخ أو الباحث، وكأنها تتمثل في جمع ما سُجل من قصص وأرقام عن تلك الفترة، وربطها جميعها في سياق واحد، بدلاً من محاولة تقسيم موجات الطاعون إلى أكثر من مرحلة. ولعل من بين الجهود العربية القليلة التي استمرت في تعريف القراء العرب بتواريخ الأوبئة، وكيفة التعامل مع هذا التاريخ بحذر، هو مشروع كلمة للترجمة، الذي أصدر في فترة قصيرة أربعة كتب عن هذا التاريخ، ضمن مشروع ترجمة سلسلة صادرة عن جامعة أكسفورد.
وكان آخر هذه الإصدارات كتاب «الطاعون» ترجمة محمد زياد كبة، ومن تأليف بول سلاك، مؤرخ للتاريخ الاجتماعي المبكر في أكسفورد. وخلافاً لعنوانه الذي قد يوحي بإعادة كتابة تاريخ للطاعون عبر العالم، كما فعل عدد من الكتب، يدعونا المؤلف لإعادة النظر في أدوات وأطر المؤرخين أثناء التأريخ لمرض الطاعون، وكيف تعاملوا مع المصادر واليوميات التي تركت عنه، وأين أخطأوا أحياناً، وكيف يمكن كتابة تاريخ جديد حول الطاعون، ولذلك يعد إضافة جديدة للمكتبة العربية، كونه يتيح للمؤرخين، وحتى للقراء، إعادة النظر في أسلوب تعاطيهم مع أرشيف وتواريخ الطاعون.
يبين سلاك أن الأنموذج الحديث للطاعون، لا يمكن فرضه على الماضي، ولذلك بات بعض المؤرخين يطبقون تقنيات علم الأحياء الحديثة على الحمض النووي المستخلص من رفات بشر عثر عليهم في مواقع، ربما كانت ذات صلة بأوبئة قديمة، كما يرى أنه في غياب أدلة مستقلة عن حجم ووفيات الطاعون، فإن الكثير يعتمد على الأدلة المتوفرة وحسب، بينما الإشكالية أنها أحياناً تعاد أو تنسخ إلى درجة معينة، ولا يعاد اختراعها أو صياغتها من جديد، كلما ظهر الوباء، فمثلاً يلاحظ في قسم كبير من هذه المراجع، أن الانطباع الوحيد الذي تعطيه هو أن المدن المصابة بالطاعون كانت بيئة يسيطر عليها الموت فقط، في حين نكتشف مع أواخر القرن السادس عشر أننا أمام مصادر ومنشورات جديدة حول الطاعون كتبها طيف واسع من المؤلفين، من الكرادلة إلى العمال البسطاء، بالعامية أكثر من اللاتينية، وهذا الانتشار يعني أن هذه الكتابات هي وليدة سياسات الأوروبيين وغيرهم من الشعوب في السيطرة أو التعامل مع الوباء، وربما ما يدعم قراءة المؤلف في هذا السياق، ما نعثر عليه في يوميات الطاعون، التي دونها تاجر حلبي في نهاية القرن الثامن عشر (يوسف الخوري) في سياق تدوينه ليومياته، إذ يؤكد هذا التاجر أن بعض أحياء المدينة قد عرفت في تلك الفترة إجراءات وقائية جديدة، لم تختبرها سابقاً، وهو ما مكنه من كتابة هذه اليوميات.
يبين سلاك أن الأنموذج الحديث للطاعون، لا يمكن فرضه على الماضي، ولذلك بات بعض المؤرخين يطبقون تقنيات علم الأحياء الحديثة على الحمض النووي المستخلص من رفات بشر عثر عليهم في مواقع، ربما كانت ذات صلة بأوبئة قديمة.
وعلى صعيد الروايات التي تناولت الطاعون، مثل رواية اليساندور مانزوني (1785ـ1873) التي تتناول طاعون ميلانو عامي 1629 و1630، يؤكد سلاك، أنه على الرغم من المراجع التاريخية والبحوث التي تقف وراء هذه الروايات، فإن بعضها كان بعيداً كل البعد عن تمثيل طاعون القرن السابع عشر، وإنما أنتجت في القرن التاسع عشر من قبل الأذواق الأدبية وجمهور المتعلمين في ذلك الواقع، والذين لجأوا ليوميات الطاعون كمدخل رمزي للحديث عن قضاياهم ومواقفهم من الإيمان والعقل والحداثة، وليس بالضرورة لنقل صورة دقيقة عن تلك الفترة.
الطاعون والتحولات الكبرى
وهناك نقطة أخرى تميز هذا الكتاب، وتتمثل في محاولة مؤلفه السير بعكس بعض القراءات التي ترى أن الطاعون والأوبئة قد غيرت مجرى الأحداث، وأنه من دونها ما تطورت الأمور بهذه الطريقة؛ ورغم أن المؤلف لا ينفي دور الطاعون مثلاً في انهيار امبراطوريات مثل الأزتك، أو في إيلاء الموت مكانة بارزة في حياة الأوروبيين، لكنه يرى أن هذه القراءة الحتمية تغفل بالمقابل بعض نقاط الضعف، فالموت الأسود مثلاً لم يفرض تراجع العبودية، ففي بعض الحالات، اختفى هذا النظام من دون أي مساعدة من الطاعون، كما نلاحظ أنه في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر تقلص عدد السكان أيضا، رغم أن الطاعون كان في طريقه نحو الزوال من القارة الأوروبية، لكن عدد السكان تناقص هذه المرة جراء ارتفاع معدل الوفيات بسبب الأمراض، وتدني نسبة الإنجاب جراء التغير في عادات الزواج، ولذلك يرى المؤلف أن الطاعون بعد عام 1400 لم يكن وحده العامل التاريخي الذي سبب التذبذب في أحوال السكان والاقتصاد في أوروبا.
وتتعارض هذه القراءة مع ما جاء به كتاب «الجوائح» للمؤرخ كريستيان ماكملاند، الصادر ضمن سلسلة أكسفورد والمترجم أيضاً عن مشروع كلمة، الذي بين دور الطاعون في تحسين شروط الفلاحين، خلال القرن الرابع عشر، كما أتاح لهم تناول وجبات طعام مختلفة، وارتداء أزياء الطبقة البورجوازية في ظل ارتفاع أجورهم بسبب ندرة اليد العاملة مع زيادة وفيات الطاعون، بينما يبدو صاحب مؤلف كتاب «الطاعون» حذرا قليلاً من هذه الاستنتاجات، ولذلك يدعونا عوضاً عن ذلك إلى قراءة السياقات الطويلة، فالجراثيم في رأيه لم تكن العامل الأساسي أحياناً، بل سرّعت في قدوم بعض الأحداث والتغيرات، وهو أمر نلاحظه اليوم مع وباء كورونا الذي سرّع وضخم دور وسائل التواصل الاجتماعي، وتأدية العمل والتدريس والمقابلات عبر الإنترنت، بينما لم يتوقع أشد المتفائلين بالعولمة قبل يوميات العزل المستمرة أن يحدث ذلك قبل عقد أو عقدين من الزمن على أقل تقدير.
Social Links: