ثمة تطورات لافتة في الشأن الفلسطيني، حصلت في الفترة الأخيرة، لا يمكن المرء إلا التوقف عندها لقراءتها، واستنباط الدروس اللازمة منها، علماً أنها بمثابة تحصيل حاصل لسياسات وخيارات انتهجتها الطبقة السياسية السائدة، عن سابق تصميم منذ زمن، لا سيما منذ توقيع اتفاق أوسلو (1993) وإقامة السلطة، وتحديداً مذ بات محمود عباس رئيساً للسلطة (2005)، أي منذ 16 عاماً.
الحدث الأول، تمثل بقيام حارس السفارة الفلسطينية (في بيروت) بصفع سيدة من مخيم اليرموك (13/4)، في سياق محاولة من حرس تلك السفارة لزجر، أو لفض، تجمع لفلسطينيين سوريين لاجئين إلى لبنان، حول مبنى السفارة لطرح مطالب إنسانية. هل تمت محاسبة هذا الحارس؟ ومن الذي خوله بتصرف أرعن كهذا؟ ثم ما الذي تعمله تلك السفارة إن لم تعمل لصالح الفلسطينيين؟ أو من تمثل تلك السفارة بالضبط؟ هذه أسئلة قديمة جديدة عن واقع السفارات، لسلطة تحت الاحتلال، لديها سفارات أكثر من أي دولة كبيرة أو صغيرة في هذا العالم، وتتعامل معها كديكور وامتيازات للعاملين فيها، من دون فاعلية تذكر في مطارح كثيرة. والمشكلة أن ما حصل في تلك السفارة يحصل في غيرها، أيضاً، والمشكلة الأكبر أن ذلك الأمر تم إزاء فلسطينيين يعيشون مأساة منذ عشرة أعوام، فإذا كانت القيادة الفلسطينية تتنكر لهم، لمأساتهم، ولحقوقهم، فما الذي تشتغله بالضبط؟ ولعل هذا يذكر بحدث اغتيال إسرائيل محمد النايف (ناشط في الجبهة الشعبية وأسير سابق)، الذي كان يحتمي في مبنى سفارة فلسطين في صوفيا (26/2/2016)، من دون أي تأمين له من المعنيين، وقد مر ذلك كأن شيئاً لم يكن.
الحدث الثاني، تمثل بتصويت “فلسطين” لبقاء امتيازات النظام السوري (الكيماوي) وصلاحياته، في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، على الضد من 87 دولة، وامتناع 34 دولة عن التصويت (أي 117 دولة) مقابل 15 دولة، فقط، صوتت لصالح النظام الكيماوي ضمنها روسيا والصين وإيران، شركاء النظام في قتل الشعب السوري.
حقا هذا تصويت لافت بكل المعايير، فالقيادة الفلسطينية كفّت منذ زمن عن التصرّف كحركة تحرر وطني، وباتت تتصرّف كسلطة، أو باعتبارها نظاماً مثل أي نظام عربي، حتى قبل إقامة السلطة (1993)، بما يعنيه ذلك من تخليها عن قيم التحرر والحرية والانحياز لقضايا الشعوب. لم يطالب أحد القيادة الفلسطينية بمحاربة النظام السوري، فهذا ليس بمقدورها، ولا بأي شكل أو مستوى، لكن ذلك لا يبرر انحيازها إلى رواية ذلك النظام الذي فعل ما فعله بالحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انقلاب حافظ الأسد، في خضم أحداث أيلول/ سبتمبر (1970) مروراً بمسؤوليته عن مجزرة مخيم تل الزعتر (1976)، وحروب المخيمات التي خاضها بواسطة “حركة أمل” في أواسط الثمانينات، وصولاً إلى تدمير مخيم نهر البارد (2007) بعد تمكين أداته (“فتح الإسلام”)، التي نشأت في أحضان “فتح الانتفاضة” الموالية له، من دون أن ننسى دوره في تشكيل فصائل موالية له مثل “الصاعقة” و”الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، ناهيك بتضييع هضبة الجولان (1967)، وتدخله في لبنان ضد الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية (1976)، وصولاً إلى طرده ياسر عرفات من سوريا (1983)، واعتقاله معظم كوادر حركة “فتح” وقتها. ليس مطلوباً من القيادة الفلسطينية سوى إبداء الحساسية إزاء مأساة الشعب السوري وإزاء مأساة الفلسطينيين السوريين، فالضحايا يتعاطفون مع الضحايا، وكان بإمكان “فلسطين” أن تمتنع عن التصويت، على الأقل، أو عن الحضور كغيرها من الدول.
الحدث الثالث، أو الصفعة الثالثة، تتمثل بمحاولة القيادة الفلسطينية استهبال الشعب الفلسطيني، فتلك القيادة لا تميل إلى الانتخابات، ولا إلى مشاركة شعبها في أي شيء، ولا تفعل ذلك إلا إذا فرض عليها من الخارج، وحتى إن النص على الانتخاب تم تضمينه في اتفاق أوسلو المجحف والجزئي (1993)، وليس كرغبة منها أو كنهج لها (مع الأسف)، بدليل أنها في المرحلة اللبنانية، عندما كانت بمثابة دولة داخل دولة، لم تجر أي انتخابات للفلسطينيين ـللبنانيين، ولم تسمح بإقامة أي كيان سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لهم، لذا فعندما أخرجت بعد الاجتياح الإسرائيلي (1982) بات فلسطينيو لبنان في العراء، ومن دون أي كيان يسندهم، الأمر الذي دفع بهم إلى الهجرة بجميع الطرق، بحيث لم يبق سوى أقل من ربعهم ربما.
هكذا، باتت تلك القيادة تبحث عن ذرائع لطي ملف الانتخابات، وضمن تلك الذرائع أتت مقولة أن لا انتخابات دون القدس، وهي مقولة واهية، ومجرد كلمة حق يراد بها باطل، أتت بعد شعور تلك القيادة بأن محاولاتها هندسة الانتخابات لتجديد شرعيتها باتت مهددة بالفشل، بحكم تفكك حال “فتح”. وفي الواقع فإن تلك الذريعة تحمل تلك القيادة مسؤولية مضاعفة، فهي تعرف أن إسرائيل ستضع المعيقات، ولكنها مع ذلك لم تهيئ ذاتها ولا شعبها لأي بديل، لا انتخابات بوسائط الكترونية (أضحت متاحة)، ولا بتحديد أماكن أخرى، كشكل من أشكال التعبئة وفرض الذات في مواجهة إسرائيل، والأهم من ذلك أن تلك القيادة هي بالذات التي وقعت اتفاق أوسلو، الذي قبلت فيه بتأجيل البت بقضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، فقط مقابل تمرير إقامة سلطة لها في الضفة والقطاع.
إ
باختصار، مفروض أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، في كل أماكن تواجده، لكن ذلك ليس شيكا على بياض، ولا مسلمة مطلقة، فتلك المنظمة يجب أن تكون ممثلة لكل الفلسطينيين أولاً، أي ألا تستثني أحداً في أي منطقة من مناطق وجودهم، لا في 48، ولا في بلدان اللجوء والشتات. ثانياً، يفترض بتلك المنظمة أن تتحرك من واقع كونها حركة تحرر وليس من واقع كونها سلطة. ثالثاً، على المنظمة أن تحافظ على المبادئ الأساسية التي تشكلت من أجلها، عام 1964 قبل احتلال الضفة وغزة، بما في ذلك الفصيل الأكبر (“فتح” التي انطلقت في مطلع العام 1965)، ووفقاً للسردية المتأسسة على النكبة وإقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني (1948)، لكن تلك المنظمة لم تعد كذلك، منذ زمن، لا سيما منذ عقدها اتفاق أوسلو، من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، وإطاراتها الشرعية، وعلى الضد من أهدافه وحقوقه ومصالحه.
فوق كل ذلك فإن الطبقة السياسية السائدة باتت تتلاعب بالمنظمة والسلطة على هواها، وهمها فقط، تأبيد مصالحها، وامتيازاتها ومكانتها، يساعد في ذلك تحررها من الولاء لشعبها، فهي لا تعتمد في مواردها عليه، وهي لم تأت بنتيجة تصويت في صناديق الاقتراع (المنظمة)، بواقع اعتمادها في مواردها ونفوذها وشرعيتها، على هيمنتها على الموارد، وعلى الريع المتأتي من الدعم الخارجي (الدول المانحة وعوائد المقاصة من إسرائيل ضمناً)، وعلى تماثلها مع الأجندات الخارجية، وعلى حيازتها مصادر السلطة والقوة (أي السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية)…لكل ذلك ليس للشعب الفلسطيني من يمثله، إلى حين استعادة المنظمة وإعادة بنائها على أسس جديدة وطنية وتمثيلية ومؤسسية وانتخابية، وفق مبدأ وحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية.
كلمة أخيرة لتلك السيدة من مخيم اليرموك، ولكل من مثلها، أينما كان، هذه الصفعة كأنها أتت على وجهي، وعلى وجه كل الشعب الفلسطيني، كرامتك سيدتي من كرامتنا… لك كل الاحترام والتقدير…
Social Links: