قبل الغضب الفلسطيني في القدس وبعده – عدلي صادق

قبل الغضب الفلسطيني في القدس وبعده – عدلي صادق

في يوم الخميس، الـ22 من أبريل الجاري، تفشت على نطاق واسع، فلسطينياً وعربياً، لقطة من تسجيل صوتي للرئيس محمود عباس، من داخل قاعة اجتماعات اللجنة المركزية لحركة فتح، يرد حانقاً وبكلمات سوقية، على عضو من اللجنة، كان يقترح عليه إرسال برقية تهنئة للحزب الشيوعي الصيني، لمناسبة مرور مئة عام على تأسيسه. وكان من الطبيعي أن يركز الذين يتداولون الشريط، على تلك “العينة” ليس من الألفاظ وحسب، وإنما كذلك على الطريقة التي يُعامل بها الرجل أعضاء “القيادة” حسب الوصف المألوف كلما أشير إلى هؤلاء الأعضاء. وكان ما سُمع بلسان الرئيس، يمسّ الصين وروسيا وأميركا و”كل العرب”.

وفي الحقيقة، يُفهم سياسياً من تلك اللقطة الصوتية، أن الرجل ليس في أحسن أحواله، وربما جاءت ردة فعله على المقترح الذي طرحه صاحبه في غير وقته، نوعاً من التعبير عن الضجر، دون أن يقصد إهانة الأطراف التي ذكرها، لكن نشطاء التواصل، عرباً وفلسطينيين ـ لاسيما الذين لا يعرفون طبائع ألفاظه في الغرف المغلقة ـ ركزوا على مستوى التعبير باعتباره سوقياً وهابطاً. وعند هذه النقطة، لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، ولم تترك له الأحداث المتلاحقة، مساحة للاستدراك، إذ اشتعل الغضب الفلسطيني في مدينة القدس الشرقية، احتجاجاً على تمادي الأصوليين اليهود في التعدي على سكان المدينة وتوجيه التهديدات لهم في كل ساعة، وتلا ذلك الغضب الشعبي مباشرة، إطلاق قذائف صاروخية من غزة أعقبه قصف إسرائيلي من الجو والبحر والأرض، ليُضاف إلى نقاط الخلاف بين الفلسطينيين، نقطة قديمة جديدة حول جدوى القصف بالصواريخ، وشكوك الكثيرين في جدواها، في حسبة الأرباح والخسائر.

ما حدث خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة يعكس مجموعة من العناصر والتداعيات الموصولة بالمأزق الفلسطيني: رئيس نظام وسلطة لم يؤسس تقليداً مقبولاً للحوار مع أعضاء إطاره الحزبي المتاح، فيطلق العنان للسانه في الاجتماعات، بتفوّهات تضرب يميناً ويساراً، دون أن يتخذ تدابير لوقف استمرار تسجيلات صوتية ومراسلات ووثائق، وهناك شعب محبط في مدينة القدس، أهمله قادته سياسياً واجتماعيا، وجمهور فلسطيني في كل الأرجاء، يريد أن ينفّس عن دواخله، ومطلقو صواريخ لا يستشيرون طرفاً ولا يلتزمون أيّ استراتيجية.

وهناك أيضاً موالون مزورون، لا يدققون عندما يسرّبون فحوى ما يقال في مجلس، تجاوزاً لكل نواهي الدين والتقاليد، الذي تؤكد على أن المجالس أمانات. فما بالنا عندما يتسبب التسريب، في ضرر مؤكد للعلاقات الدولية الفلسطينية. وكان من أبرز المفارقات، أن أعضاء المركزية استمعوا إلى التسجيل والتزموا الصمت، ليتولى النفي والإنكار مستشار الرئيس للشؤون الدينية، وحده ـ وهو ليس من حركة فتح ـ دون أن يزيد فحوى تصريحه عن القول: حسبي الله ونعم الوكيل!

في أول السياق، كان عضو مركزية فتح، عباس زكي، هو صاحب الاقتراح بإرسال برقية للحزب الشيوعي الصيني. فالرجل، وبموجب العوار حتى في التكليفات، يحمل صفة مفوّض العلاقات مع الدول والأحزاب العربية مضافاً إليها الحزب الحاكم في الصين. ويعجب المرء من هكذا تكليف، إذ يجمع الفضاء العربي مع الفضاء الصيني، دون أن يكون الرجل خبيراً على الأقل في الشؤون الصينية، ودون أن تكون الصين مجاورة للعالم العربي، وهذا يدل أصلاً على أن التكليفات تجري كالأعطيات والترضيات. فمن لا تعجبه حصته، يُسترضى بزيادة استثنائية من نوع آخر مختلفٍ عن الحصة الأساسية.

في مثل هذا المناخ الذي لا تعلم فيه قيادة السلطة، كيف وأين تكون الخطوة التالية، انفجر الوضع في القدس على غير توقع. ربما يكون الأصوليون المتطرفون، موجهين من عقلية أمنية إسرائيلية، حركتها، لكي تستحث التفجير، سعياً لإحباط الضغوط على الحكومة لكي تسمح بإجراء انتخابات برلمان السلطة في القدس الشرقية. بمعنى أنهم يتعمدون خلط الأوراق، وجر غزة إلى “نُصرة” القدس، من خلفية المألوف العاطفي، لكي تصبح الهبّة الشعبية الاحتجاجية التي يطلقها الشُبان الفلسطينيون، موصولة بأعمال عسكرية، يراها المستوى السياسي الإسرائيلي “تهديدات أمنية” تدينها الولايات المتحدة.

بل ربما كان في ذهن العقلية الأمنية التي تحرك المتطرفين، أن الاستمرار في استفزاز سكان القدس، من شأنه رفع وتيرة التشدد الفلسطيني، على النحو الذي ينعكس بالقدر نفسه من التشدد، في نتائج الانتخابات حال إجرائها. فالأوساط المتطرفة في إسرائيل، بجمهورها العريض، لا تريد للفلسطينيين التقاط الأنفاس لكي يتمكنوا من إعادة بناء نظامهم السياسي ويطووا مرحلة الانقسام. وهؤلاء يعرفون ـ للأسف ـ أن جر الفلسطينيين إلى الفخاخ أمر سهل. والفلسطينيون بدورهم، غير مُلامين إن لم يجدوا مناصاً من الدفاع عن النفس، بوسائل الاحتجاج الشعبي. فمن طبائع الأمور أن الطرف الغالب يلعب لعبته مستريحاً، ويمتلك القدرة على تجزئة الخطط العامة إلى مراحل لكي يجرّ الشيء شيئاً.

عندما اندلع الغضب الشبابي في القدس وجد عباس مع حلقته الضيقة أن ما فوجئوا به في القدس يضيف إلى مأزق السلطة ويربكها، وأن التنصل من المسؤولية عنه لا يفيد، لأن المصالح الأمنية ومراكز دراسات الأوضاع عند دولة الاحتلال توصلت مبكراً إلى نتيجة مفادها أن إنكار الطبقة السياسية الإسرائيلية وجوب التوجه فوراً إلى التسوية المتوازنة؛ يظل مكشوفاً على المستوى الدولي ولا يمكن تسويق أسبابه الملفقة. لكن ما يساعد على التسويق هو بالدرجة الأولى ترهل النظام الفلسطيني وفساده، بما ينتجه من عوامل الإحباط وسد الآفاق أمام الشباب وجهله بالبعد الاجتماعي للسياسة.

الأغرب من ذلك أن رئيس السلطة لا يعرف حتى كتابة هذه السطور ما إذا كانت الهبّة الشعبية في القدس تساعده على إلغاء الانتخابات أم إنها تحثه على إجرائها تحاشياً لأن يلتهب الغضب الشعبي أكثر في حال الإلغاء. فمن يفقد بوصلته في صغائر الأمور ليس بمقدوره، عند كبائرها، أن يرتجل لنفسه بوصلة أخرى، لكي يرى ما يجري في المشهد العريض. ولأن الوضع الفلسطيني تتخلله جيوب لا تَحْسب ولا تتحسّب، فقد لوحظ أن من بين الشباب في القدس، نفرٌ سُمع يتوعد عباس ويهتف ضده، وهذا بحد ذاته خطأ يُحسب على هذا النفر، لأنه يحبط محاولة عباس أو غيره تحويل الهبّة الشعبية إلى ورقة سياسية ضاغطة، وقادرة على تظهير حقيقة السياسات الإسرائيلية الاستيطانية المتنكرة للحقائق ولعملية التسوية.

  • Social Links:

Leave a Reply