تراجعت الأرقام التي تعلنها سلطة الأسد عن الإصابات والوفيات بكورونا في الأيام الأخيرة، وكانت هذه الأرقام قد ارتفعت إلى أعلى مستوى لها إثر الإعلان عن إصابة بشار وأسماء بالفيروس، لتستقر قريبة من ذلك المستوى في الأسابيع الماضية. انخفاض الأرقام المعلنة وإن أتى متدرجاً فبسرعة، بسرعة انخفض عدد الإصابات إلى النصف وكذلك عدد الوفيات. الآن أمام الفيروس مهلة قصيرة، إذ يتوجب عليه الانسحاب من البلاد قبل الاقتراع لولاية رئاسية جديدة لبشار.
مَن يتابع القليل من أخبار سوريا يعلم أن الأرقام المعلنة لا تعكس أصلاً تفشيَ الوباء، وما يرافقه أحياناً من فظاعات تُسجّل للنظام الصحي، وسيّان لو صدرت الأرقام عن مسؤول صحي أو عن ضابط في المخابرات بما أنها اعتباطية منفصلة عن الواقع. سيّان أيضاً لو، بدل تخفيض الأرقام المعلنة، استمرت تلك الجهة على المستوى القديم، بل زادت فيه واعتبرت خروج المقترعين للتصويت لبشار تحدياً للفيروس، أو استعداداً للتضحية بالأرواح من أجل بقائه. نحن لا نعلم مَن هو صاحب القرار الذي رجّح هذا الاحتمال على ذاك، مع أن المسخرة التي في الاثنين تبدو متعادلة.
على الأهمية والأولوية التي ينبغي أن تحظى بهما صحة السوريين، ربما لا ينتبه سوى قلائل إلى هذا التفصيل الصغير في الديكور المهلهل للانتخابات، إذ هناك في الديكور الرئيسي والممثلين مادة فاقعة للهزل جديرة بالتغطية على ما عداها. وهنا صار واضحاً الابتذال المتفاقم للسيرك الانتخابي الجديد، حتى قياساً إلى سابقه، من دون أن نعلم بدقة من هو المُخرج المنفذ، وإن كان بطبيعة السلطة لا يخرج عن توجيهات المخرج الأول بشار الأسد.
في افتتاحية “المدن” “وهل يحتاج الأسد إلى انتخابات؟” يطرح الزميل رئيس التحرير ساطع نور الدين أسئلة يمليها العقل أمام الابتذال الذي يقدّمه الأسد لمناسبة التجديد له، الابتذال الذي يمسّه ويمسّ جمهوره المفترض قبل أن يمسّ باقي السوريين أو المنظومة الأخلاقية العامة. تأتي أسئلة الزميل ساطع من موقع العقل البارد الذي ينحّي “مؤقتاً” انحيازاته السياسية والقيمية، ومع ذلك لا يجد بدّاً من اقتراح مسار آخر تقتضيه مصلحة بشار ومؤيديه بدل السيرك الحالي، بينما من المرجح أن يوغل صاحب المصلحة في الخيار الأسوأ، بل ولا يُستبعد “نجاحه” في خياره ليكون مثالاً لمناسبات قادمة!
كيف يفكر بشار الأسد؟ ربما كان هذا السؤال مستتراً وراء دهشتنا أو سخريتنا أو مناقشاتنا لسلوكه، ليس الآن فقط بل منذ استلامه السلطة. لدينا الكثير من الأمثلة السابقة على الثورة، سورياً ولبنانياً وحتى إقليمياً.
نحن، بقليل من العقل، نستنتج أن المعنيّ أضاع فرصة التصالح مع السوريين عندما تسلم السلطة، وكانت غالبيتهم مستعدة لطي أسوأ ما في صفحات والده لقاء إصلاحات بسيطة لا تمسّ قبضته القوية على السلطة، ولا تمس حتى تحويل البلد إلى جمهورية وراثية. كان سهلاً ترك القليل من المعارضين، الذين طالبوا بدايةً بإصلاح تدريجي يقوده بشار، طلقاء لا زجهم في السجون، الأمر الذي سيحسّن من صورته داخلياً وخارجياً. هكذا نفكر نحن لا هو.
كان اللبنانيون قد شذّبوا قليلاً رجل المخابرات غازي كنعان، وهو بدوره راق له ذلك التميز عن أقرانه، ليأتي تعيين رستم غزالي مكانه كتفضيل فاجر للبلطجة على ما تعايش معه اللبنانيون من مستوى يراعي قليلاً من كراماتهم. كذلك كان الحال مع تعامل بشار نفسه مع الرئيس رفيق الحريري، قبل الوصول إلى تصفيته. فقط في سلطة كهذه، وخارج أي منطق وعقل، يحدث أن يطالب رستم غزالي الراحلَ بأن يدفع له مبكراً “الخوّة” المعتادة لشهر شباط، لأنه يريد الحصول على المبلغ قبل مقتله الذي كان يعلم بحدوثه.
بعقل بارد لا يتوقف عند أخلاقية طلب المال من قتيل لاحق، كان يُفترض معاقبة رستم غزالي على خطيئة مخابراتية، وما حدث أن زعيم حزب الله كرّمه وأهداه بندقية، ثم عُيّن في منصب مخابراتي في سوريا بسبب اضطرار بشار إلى سحب قواته من لبنان. قبل ذلك، عام 2004، أبقى بشار على محافظ الحسكة نكاية بالأكراد، وكان لذلك المحافظ دور بارز في إشعال الانتفاضة الكردية بإشهار مسدسه وإصدار الأوامر بإطلاق النار على محتجين أكراد، قبل انتشار المظاهرات خارج القامشلي، وفي وقت متأخر جداً تم نقله ليكون محافظاً لمدينة ثانية ثم ثالثة!
في أول خطاب له “أمام مجلس الشعب” بعد اندلاعها، اعتبر بشار جانباً من الثورة بمثابة امتداد للهجوم عليه عام 2005، أي طرده من لبنان. في خطابه ذاك أفرط بشار في الضحك، واعتبر “الأزمات حالة إيجابية” إذا استطاع السيطرة عليها، وثمة من أخطأ في التركيز على القرابة التي تربطه بعاطف نجيب، رجل المخابرات الذي اعتقل أطفال درعا واستفز أهاليها، فالقرابة ليست هي ما منعه من معاقبة ابن خالته. هو قبل ذلك لم يعاقب رستم غزالي ولا محافظ الحسكة، وفي حادثة شهيرة أثناء إعداده لوراثة السلطة طالبه أهالي حلب بإقالة المحافظ فعيّنه رئيساً للوزراء مع إشادة به غير مألوفة لدى تعيين رؤساء الحكومات.
استطراداً لما يمليه العقل البارد، من السهل رؤية النتائج الكارثية لسياسات بشار، فهو اضطر إلى الانسحاب من لبنان مع تبعات ذلك بإضعافه إقليمياً وسورياً، وبتبعيته المتزايدة لطهران. رفضُه الإصلاح المتدرج البسيط أدى في النهاية إلى الثورة، ونجاحه في التصدي لها ثمنه النفوذ الإيراني ونظيره الروسي، وهو بحساب بسيط قدّم لهما أكثر بكثير مما كان مطلوباً منه تقديمه للسوريين. ذلك كله يتسق مع تفاصيل السيرك الانتخابي الحالي، إذ كان يمكن له إخراجه على نحو أقل ابتذالاً، ومن أجله هو كان يمكنه مثلاً عدم اختيار مرشح “من بين اثنين وقع عليهما الاختيار” معروفٌ بأنه مُخبر، من دون أن نعرف عدد أجهزة المخابرات التي يقدّم لها خدماته.
الحق أن عقلنا البارد يبقى قاصراً على الإحاطة بحالة لها منطقها الخاص، فالعقل البارد مهما تجرد عن القيم لا بد أن يلحظها أحياناً من باب المصلحة، إذ لا مصلحة مثلاً يراها العقل بالدوس المستمر على كل ما هو مشترك مع الآخرين، ولا مصلحة يراها في الابتذال الذي لا يكون عارضاً بل يؤسس لابتذال لاحق أشد. في مواجهة هذا العقل قد يأتي أسدي بمنطق آخر “مشروع”، يدافع عن الكيفية التي يفكر بها بشار بصدق، فيطرح علينا هذا السؤال: أليس من العبقرية أن يرتكب كل ما ترونها أخطاء ثم يبقى في السلطة؟
Social Links: