في الحقيقة لا أحد من السوريين مقتنع بما يجري داخل سوريا. فما يراه الجميع من أمر مهزلة الانتخابات يخالف العقل ومنطق الأمور ومجريات الحياة. لكنه يجري في الواقع ويعيشه السوريون ويسخر بعضهم منه، ويتندر به، ويحيل مفرداته إلى نكات وطرائف تخفف ما في الصدور من استنكار واستصغار لـهكذا نظام..
لكن رأس النظام يعرف تماماً حقيقة ما يقوم به، فهو وفقاً لأسلوب توريثه الحكم، ورؤيته لنفسه، وللمنتفعين من وجوده، يعتقد بأنه على حق، ولذلك تراه يتعالى على الرعية بوهم التفوق، فهو مخلوق للقيادة، وما عليه إلا العمل على إعادة بث هذه الفكرة الاستبدادية في الذهنية الشعبية دائماً وأبداً، لا سيّما وأنه يمتلك أدواتها من قمع وقتل وسجن وتضييق عيش، وإغداق نعمه على رؤوس الدولة العميقة التي تتكفل بهذه المهمة، وعلى ذلك فهي دائمة العمل على تتفيه الرعية..
فمنذ أيام حافظ الأسد كتب زكريا تامر قصة “النمور في اليوم العاشر” لتعكس حكاية السوريين الموضوعين في قفص الترويض.. تحكي القصة في عمقها، عن تحقير الكائن أولاً ثمَّ امتطائه.. وإلا ما معنى أن يترشح للانتخابات نحو خمسين واحداً وربما أكثر، ويعلن كل منهم بأنه إذا ما نجح سوف يلجأ للسيد الرئيس فيما يفعله.. أليست هذه مهزلة المهازل؟! ثم كيف يقبِّل بعضهم بسطارا عسكريا مهزوما مراراً وتكراراً أمام عدو بلاده، ويمارس أبشع أنواع التنمر على شعبه تعويضاً..
رحم الله الشاعر عمران بن حطان الذي قال مخاطباً الحجاج:
أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة ربداء تجفل من صفير الصافرِ
هلاّ برزت إلى “غزالة” في الضحى أم كان قلبك في جناحيْ طائر
وغزالة (امرأة فارسة من أبطال بني شيبان وزوجها شبيب مثلها فكلاهما محارب مرٌّ)
لاشك بأن أمر مهزلة الانتخابات مكشوف، لكن النظام يصرُّ على الإيحاء بأنه متماسك، كي يبقى جاثماً على صدر سوريا والسوريين عموماً، وبما حققه له الروس والإيرانيون من تهجير للشعب، وتدمير لمقدرات الوطن وبُناه المختلفة، وبعد نجاح الإيرانيين باختراع فكرة إعادة تصدير الإرهاب بصورة تنظيم الدولة (داعش) المُحتضنة لديها منذ أن طُردت من أفغانستان، ولتجعل منها غطاء لإفشال الثورة السورية، بوضعها العراقيل أمامها، وبالتالي إشغالها عن مواجهة الاستبداد هدف الثورة الرئيس، وبعدئذ التطلع إلى الحريات العامة، ودولة المواطنة المحمية بالقوانين، ووفق أسس الديمقراطية.
وهكذا أدخلت داعش والقاعدة، وكثيرا من الفصائل المتطرفة، منذ أواخر العام 2012 لتأخذ في النمو والتكاثر والسيادة على الأرض السورية، ولتكون سبباً مباشراً للتدخل الخارجي، لا بِفِعْلِ إيران وحدها بل بمساهمة جدية من دول عربية وإقليمية في تلك اللعبة القذرة..
في مقابل ذلك المشهد كانت المعارضة قد ارتكبت الأخطاء الجسيمة ومنها عدم تقديرها قوة نزول الملايين من السوريين إلى الشارع، وقلة احترامها لذلك الزخم، وحجم عنفوانه، ونبل شعاراته، فأخذت تبيع وتشتري بها مقدمة الثانوي على الرئيسي في تبنيها لهذه المظلمة الجزئية أو تلك، وتفصيل سوريا الوطن على حجم تلك المظالم أو بحسب رؤية المصلحة الشخصية دون العامة ومن غير النظر إلى مظلمة الشعب السوري قضية موحدة سببها الاستبداد المطلق.
وهكذا أخذت، المعارضة، برؤيتها الضيقة هذه، إرادة الشعب بعيداً.. ولم يكن لجيل الشباب ممثل الثورة أي دور عملي، رغم أنه كان قد اكتسب وعياً نوعياً شكَّل دفعاً لانطلاقته نحو بناء سياسي يحرر طاقاته، وينمي اقتصاد بلاده بما يتناسب مع روح العصر.. ولم تستطع المعارضة أن تقدم خطاباً سورياً مقبولاً لدى العالم.. بل قدمت معارضات وشراذم..
على كل حال ومهما يكن من أمر بقاء النظام وأمر انتخاباته التي تأتي اليوم على أنقاض سوريا الشاملة، بشراً وحجراً وتهديداً لاستقلالها ووحدة أراضيها بما نجده اليوم على أرضها من جيوش واحتلالات بأشكال مختلفة! ورغم ذلك يبقى النظام مسؤولاً أوَّل عن الكارثة السورية!
لم تشهد سوريا في تاريخها المعاصر أي انتخابات فعلية، بعد انتخابات عام 1961 خلال فترة حكم الانفصال
ولا شك في أن لمهازل الانتخابات على مداها دوراً رئيساً فيما حدث ويحدث اليوم.. إذ لم تشهد سوريا في تاريخها المعاصر أي انتخابات فعلية، بعد انتخابات عام 1961 خلال فترة حكم الانفصال.. وكانت قد سبقتها انتخابات عام 1954، التي استمرت أقل من أربع سنوات ووصفت مرحلتها بالعهد الذهبي لسوريا.. وقد انتهت تلك المرحلة بحدث الوحدة السورية المصرية عام 1958 ما يعني أن انتخابات حقيقية لم تجر منذ أيام الحكم “الانفصالي/الرجعي/البرجوازي.. إلخ” بحسب توصيف حزب البعث له، رغم أن أولئك الحكام أكثر من احترم الدولة وقوانينها، وأكثر من حافظ على مفهوم الجيش وظيفةً وغايةً وأداة تحرك وفق القانون لدى الضرورات الوطنية..
إن الانتخابات غير شرعية حتماً.. ومن أين تأتيها الشرعية هل من الجيوش والميليشيات الأجنبية التي تبسط نفوذها على 40% من مساحة سوريا التي يعيش عليها بين أربعة إلى ستة ملايين مواطن سوري إضافة إلى المهجرين الذين ناهزوا عشرة ملايين في الأردن ولبنان وتركيا وأوروبا وفي مخيمات شمالي سوريا وشرقها؟ أم من مئات الألوف في السجون والمعتقلات؟ أم من أمهات الذين قضوا بسبب قصف النظام والروس على المدنيين الآمنين أم من ألوف الأطفال الذين قضوا بالسلاح الكيماوي.. أم من الحال الاقتصادية التي أوصلت المواطن السوري حد الجوع الفعلي.. وما هو واضح تماماً أن الحل السوري كلما طال هدد ما يسمى بالسيادة السورية، وبالهوية السورية الحديثة وشكل خطراً جدياً على وحدة الأراضي السورية وتفتيت بنية شعبها..
وأخيراً لا بد من القول إن الانتخابات لا تستمد شرعيتها، في الواقع السوري، إلا من خلال الشعب السوري كله، إذ لا يمكن أن تجري إلا وفق تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الذي ماطل النظام في التعاطي مع أيٍّ من مفرداته ولم يزل.. فالانتخابات يجب أن تجيء عبر عملية سلمية شاملة، ولا بد أن يسبقها وجود هيئة حكم انتقالي تهيئ الأجواء المناسبة والضامنة لنزاهتها.. ما يعني أن يجري الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وعن المغيبين قسرياً، وتسمح بعودة المهجرين من أصقاع الأرض آمنين معفيين من الأحكام الجائرة التي اتخذت بحقهم على الشبهة، وهكذا يمكن أن يساهم في الانتخابات جميع السوريين ترشيحاً وانتخاباً! وعدا ذلك فهي لا تعبر إلا عن قبح صورة النظام وممارساته المعاديه للشعب السوري.
Social Links: