تقف سورية، بعد الانتخابات الصورية التي جرت الأسبوع الماضي، أمام مرحلةٍ جديدةٍ عنوانها “العطالة والجمود”، فالنظام الذي أجرى “انتخاباته” بطريقةٍ استعراضيةٍ أراد منها إعلان “انتصار”، معياره الوحيد هو استمراره، لا يعطي أي مؤشّر على استعداده لأي تسوية سياسية تخرج البلد من أزمتها الوجودية، تعيد بناء الدولة على أسسٍ توافقية، وتكفل وحدتها الترابية. واقع الحال يفيد بأن النظام يذهب في الاتجاه المعاكس، عبر الاستمرار في اعتماد الحل الأمني الذي لا يتقن غيره في التعاطي مع أزمته، والرهان على التغيرات الإقليمية والدولية لإعادة تأهيله، ولو جزئيا، وتحسين الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرته.
تمثل هذه الثلاثية استراتيجية النظام، وجوهر رهاناته، للمرحلة المقبلة، فهو يطمح إلى استعادة مناطق في الشمال والشمال الغربي خصوصا، باعتبارها التهديد الأكبر الذي يواجهه، إذ ما زالت المعارضة تمتلك وجودا عسكريا كبيرا فيها، وتتصل عبرها بحليفها الاقليمي الأكبر (تركيا). وبالفعل، تُظهر مؤشّرات أن النظام يفكّر بعمل عسكري كبير في إدلب، ويراهن على أن روسيا سوف تدعمه هذه المرّة بسبب التدهور الكبير في علاقاتها بواشنطن، وتضعضع الموقف الاستراتيجي التركي على خلفية توتر العلاقة مع إدارة الرئيس بايدن، وهو عكس ما كان عليه الحال في الهجوم الكبير الأخير على إدلب أواخر العام 2019، وأسفر عن اتفاق الخامس من مارس/ آذار 2020 بين موسكو وأنقرة. في ذلك الوقت، وقفت ادارة ترامب بقوة وراء تركيا، فأحجمت موسكو عن دعم المليشيات الإيرانية التي قادت المعركة، وتركتها مكشوفةً أمام الطائرات المسيرة التركية ففتكت بها.
يقدّر النظام أن في استطاعته استعادة أجزاء من شرق الفرات أيضا، إما من خلال تفاهم مع الأميركيين والأكراد، بحيث يحصل على بعض حقول النفط، مقابل تنسيقٍ ما ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وربما إعادة فتح المعابر الحدودية مع العراق وتركيا لإيصال المساعدات الإنسانية، أو عبر التفاهم مع تركيا التي تتفق مع روسيا وإيران بشأن ضرورة إخراج الأميركيين من المنطقة. يراهن النظام أيضا على أن أجندة الديمقراطيين وأولوياتهم في المنطقة تصب باتجاه إعادة تأهيله، ويرى أن إدارة بايدن ليست سوى استمرارٍ لإدارة أوباما التي لم تؤمن يوما بالمعارضة السورية، ولا بقدرتها على إنتاج بديل واقعي، قادر على حكم البلاد، كما أبدت استعدادا دائما للتضحية بها، لصالح التفاهم مع ايران، وأن إعادة واشنطن النظر في سياساتها في المنطقة، سوف تدفع باتجاه تطبيع عربي وإقليمي معه، فتركيا بات همها الأول إفشال مسعى إدارة بايدن لإقامة إدارة ذاتية كردية شرق الفرات. أما السعودية التي باتت حرب اليمن كابوسها الأكبر، فقد بدأت حوارا مع إيران (ومع النظام) استباقا لاتفاق أميركي – إيراني محتمل. يطمح النظام أخيرا إلى الاستفادة من تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، وجعل سورية جزءاً من مشروع الحزام والطريق للحصول على دعم صيني كبير في عملية إعادة الاعمار، وهو أمر سيحفّز المال الخليجي للدخول على الخط.
هذه هي حسابات النظام ورهاناته، وهي تبدو على السطح ممكنةً لكنها تقوم في العمق على قراءة تبسيطية ومتناقضة للوضعين، الإقليمي والدولي. فاذا تركنا جانبا النقاش بشأن الإمكانات والقدرات العسكرية والمالية التي تتطلبها معركة كبيرة بحجم إدلب، من المستبعد أن تلتزم الولايات المتحدة التي بات الجانب الإنساني عنوان سياستها في سورية، أو أوروبا، الصمت تجاه الكارثة التي قد يخلفها هجوم على منطقة تؤوي نحو أربعة ملايين إنسان، نصفهم لاجئون. فوق ذلك، بات الوضع السوري مرتبطا بشدّة بحسابات روسيا الاستراتيجية الكبرى، وعلاقاتها الإقليمية والدولية. وهي، إذ تحشد الآن على الحدود مع أوكرانيا وأوروبا، في غنىً عن فتح جبهة جديدة في شرق المتوسط مع تركيا التي ستحظى قطعًا، في ضوء التوتر مع موسكو، بدعم أوروبي أميركي يخلّ بجهود الكرملين لإبعادها عنهم. النظام يقرأ أيضا أكثر مما ينبغي في التغيرات المحتملة في السياسات الأميركية تجاه المنطقة، وينطلق من تفكير رغبوي أكثر منه واقعي، ففي ظلّ التوتر المتزايد مع روسيا والصين، لا تبدو إدارة بايدن في وضع يسمح لها بأكثر من إعادة ترسيم، وليس تغيير، تحالفاتها الإقليمية والدولية. ولن تحصل عملية إعادة الإعمار، على الأرجح، على نطاقٍ واسع في غياب استقرار سياسي وأمني، واستمرار العقوبات الأميركية والأوروبية. هذا يعني أن الحل السياسي هو الطريق الوحيد الممكن للخروج من عنق الزجاجة. البديل هو استمرار الجمود بانتظار تغيرٍ ما، يقلب الموازين، وهو أمرٌ محتملٌ.
Social Links: