الفقر يتمدد إلى غالبية البيوت. سوق العمل تضيق كثيراً إلى حد خنق من بقي فيها بتحديات وجودية قاسية. الليرة تنهار جارفة معها القدرة الشرائية للأسر، المعاناة تتزايد من دون أي أمل بحلول أو تغييرات جدية. هنا سورية، بلد هجره الملايين قسراً تحت ضربات المدافع ونيران الطيران، أرض تضم الملايين من الناس الذين يعانون بغالبيتهم في تأمين أدنى متطلبات العيش، هنا حيث يجدد نظام بشار الأسد ولايته بانتخابات رئاسية تضج بوعود وشعارات صعبة المنال.
ويتوقع رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية، أسامة القاضي، أن تزداد معاناة السوريين المعيشية خلال الفترة المقبلة مع عودة تهاوي سعر صرف الليرة “التي فقدت جميع محددات قوتها، وعجز نظام بشار الأسد عن الإيفاء بأي وعد قطعه لناخبيه”.
وتخوّف القاضي، خلال حديثه مع “العربي الجديد”، من لجوء النظام إلى تقسيم سورية للمحافظة على حكمه “الفاقد لأي شرعية بعد مسرحية الانتخابات”. ويضيف الاقتصادي السوري أن النظام يروّج هذه الفترة لانتعاش مقبل، بالاعتماد على عودة رؤوس الأموال والمستثمرين من الخارج، “لكن ذلك لن يحصل، فأصحاب الأموال لن يتركوا الدعم والمناخ الجاذب في أي دولة للعودة إلى سورية”.
ويعتبر أن “السوريين يدفعون الثمن وحدهم، بعدما ساقهم النظام غصباً إلى تجديد حكمه الوراثي. والمحزن على سورية ومستقبلها، ما سمعناه خلال كلمة بشار الأسد بعد الانتخابات، فهو آثر لغة الإقصاء والتحدي وقسّم السوريين عمودياً، ما يؤكد أن لا حل ولا انفراج اقتصادياً، ما دام الوريث على كرسي أبيه”.
بدوره، يرى الاقتصادي السوري محمود حسين، أن سوء معيشة السوريين أساسها الدخل المنخفض، “لأن الأسعار إن قُيِّمت وفق أي عملة، عدا الليرة السورية، فهي لم تزد خلال السنوات العشر الماضية، بل الليرة هي التي تهاوت من 50 ليرة للدولار إلى أكثر من 3300 ليرة اليوم، في حين أن الأجور لا تزال ثابتة عند عتبة 60 ألف ليرة شهرياً”.
ويبيّن حسين لـ”العربي الجديد” أن متوسط إنفاق الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص، قفز من نحو 20 ألف ليرة عام 2011، أي نحو 400 دولار، إلى 150 ألف ليرة، أي نحو 500 دولار عام 2015 وقت كان سعر الدولار 300 ليرة.
ويشرح أنه وفق “مركز قاسيون” زادت تكاليف معيشة الأسرة السورية إلى 335 ألف ليرة عام 2019. لكن التهاوي الأكبر بسعر الصرف، كان خلال العام الماضي حتى اليوم، حيث ارتفعت تكاليف معيشة الأسرة السورية إلى مليون ليرة شهرياً.
وبرأي الاقتصادي السوري، فإن “قلة فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، أحدثا تغيرات “خطيرة” في المجتمع السوري، فضلاً عن استمرار الفساد بكل المستويات ومحاولات الهجرة المستمرة، حتى بأوساط حواضن نظام الأسد”. ويضيف: “ستدفع سورية ثمن تبديد الكفاءات والثروة البشرية لعقود طويلة”.
وتؤكد مصادر من دمشق لـ “العربي الجديد”، أن مشكلة معيشة السوريين “ليست بنقص المواد في السوق، بل بارتفاع الأسعار قياساً للدخل. فسورية المفروض عليها حصار وعقوبات، يدخل إليها أحدث الموبايلات والسيارات والعطور في العالم، شمالاً من تركيا، وجنوباً من لبنان، وشرقاً من أربيل والعراق”. والمشكلة، بحسب المصادر، ترتبط “بقدرة السوريين الشرائية وعدم تمكنهم من تأمين أولويات المعيشة، ما يبقي نسبة الفقر عند حدود 90 في المائة”.
ولم يتغيّر الحال، بحسب المصادر، بعد الاستحقاق الرئاسي والوعود التي قطعها الأسد والحكومة، “بل غلاء الأسعار باقٍ كما كان، باستثناء أسعار بعض الخُضَر والفواكه الموسمية محلية الإنتاج”، ولكن “حتى هذا التراجع يبقى طفيفاً وغير ملحوظ قياساً بالدخل الزهيد”. مثلاً، فإن اللحوم أصبحت من الكماليات بالنسبة إلى غالبية السوريين.
فقد “ذهبت سكرة الرقص والاحتفال وعادت فكرة المعاناة” وفق الاقتصادي السوري علي الشامي (اسم مستعار) من العاصمة السورية دمشق. يستهل الشامي حديثه عن الواقع المعيشي، قائلاً إنه “لم يتغيّر شيء على صعيد تحسين الدخل، في حين أن الإنفاق الشهري للأسرة السورية يزيد بالحد الأدنى 15 ضعفاً عن الدخل”. ويلفت إلى أن هذا الواقع ينطبق حصراً على من لديهم دخل ثابت، حيث إن البطالة في سورية وصلت إلى عتبة 83 في المائة.
ويشرح الشامي خلال حديثه مع “العربي الجديد” أن الانتظار سيد الموقف، “الناس في الداخل تعيش على أملَين: الأول، الانفتاح العربي على النظام، بواقع ما نسمع عن “حلحلة” بالعلاقات مع السعودية التي تعتبر بوابة الخليج، والأمل الثاني، أن يُعوَّم النظام دولياً، بعد الانتخابات، فتشهد البلاد إعادة إعمار وسحباً للعقوبات”.
وحول الجديد عملياً على الأرض، يجيب الاقتصادي السوري متهكماً: “توجد ثلاثة متغيرات: الأول، أن محافظة دمشق اتفقت مع شركة خاصة حيث ستؤجرها شوارع العاصمة كمواقف سيارات والساعة بـ500 ليرة سورية.
والمتغير الثاني، أن حكومة بشار الأسد رفعت الدعم بالكامل عن الأسمدة، فارتفع سعر الطن من 250 ألف ليرة إلى مليون ليرة نهاية هذا الأسبوع، والتوقعات تشير إلى انعكاس أسعار الأسمدة الجديدة على الخضر والفواكه”.
وأما المتغير الثالث، بحسب الاقتصادي السوري، فهو “أن حكومة حسين عرنوس وافقت على دعم بعض المستوردات بسعر الدولار عند 2525 ليرة، لكن خيبة التجار، أن قائمة الدعم لم تطاول إلا بعض السلع، مثل السكر والأرزّ والمتة، بحيث يعيشون اليوم على وعود بأن تشمل القوائم اللاحقة للدعم، السلع الأساسية”.
وحول عودة سعر صرف الليرة للتراجع، بعد التحسن الذي شهدته قبل الاستحقاق الرئاسي في 26 مايو/ أيار الماضي، يقول الاقتصادي السوري: “كان رفع سعر الليرة السورية واحداً من شعارات حملة بشار الأسد الرئاسية، فوجدنا تغيير حاكم المصرف المركزي والتدخل المباشر بالسوق، ولكن بعد “انتهاء المسرحية” عادت الليرة إلى الارتفاع”.
ويشير إلى أن السبب الأهم لهبوط الليرة حالياً، مرتبط بزيادة عرض الدولار خلال الفترة السابقة، حيث كانت التحويلات الخارجية خلال شهر رمضان والعيد مرتفعة، بعدما زاد المصرف المركزي سعر دولار الحوالات 100 في المائة ليوازي سعر السوق السوداء. ويتابع: “لكن هذا الرافد الدولاري الذي وصل خلال شهر الصوم إلى 10 ملايين ليرة يومياً، توقف اليوم أو تراجع إلى الحدود الدنيا”.
في المقابل، يتابع الاقتصادي: “يزيد الطلب على الدولار في السوق السورية، بسبب عدم تمويل المصرف المركزي المستوردات، ما يدفع التجار، بعد خسارة السوق اللبنانية، إلى جمع قيمة المستوردات من السوق المحلية، ما رفع سعر الدولار اليوم إلى 3300 ليرة سورية”.
Social Links: