الأبدية التي طالما وٌصِفَ، أو وصف نفسه، بها النظام الأسدي، أو بالأحرى “الحقبة الأسدية” في تاريخ سوريا، لا تتعارض مع انقسامها إلى مراحل متتالية، حتى لو كان ذلك فقط استجابةً لتغيرات من خارج النظام، تغيرات “طبيعية” كمرض حافظ أسد في العام 1984 حين وجد النظام نفسه في مواجهة تمرد رفعت الأسد، أو موته، في حزيران 2000؛ أو تحديات داخلية كتمرد الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين بين 1979- 1982؛ أو خارجية كبداية الحرب الأهلية في لبنان 1975، أو الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، أو الاحتلال العراقي للكويت وما تلاه من تداعيات، أو تفكك الاتحاد السوفييتي، أو هجمات 11 أيلول 2001 على نيويورك واشنطن وما أدى إليه من احتلال العراق؛ أو تداعيات خطيرة تسبب بها بنفسه كقراره باغتيال رفيق الحريري… هذه الأحداث وغيرها شكلت مفاصل مهمة قسمت الحقبة الأسدية المديدة إلى مراحل لها سمات تختلف بها عما قبلها وما بعدها.
فهل هناك تغيرات متوقعة، في الفترة القادمة، قد تبرر اعتبار الانتخابات الرئاسية التي جرت في “سورية الأسد” الأسبوع الماضي، بداية مرحلة جديدة في الصراع السوري، أم أن كل شيء سيكرر نفسه كما كان قبلها، ولن يحدث أي تغيير إلا بمفاجآت غير محسوبة؟
هناك مستويان يمكن البحث فيهما عن مؤشرات لتغييرات قادمة (أو عدمها)، أولهما ما يتعلق بمجيء إدارة أميركية جديدة لم تعلن بعد عن تغيير يذكر في سياستها تجاه سوريا، وثانيهما يتعلق بمسار “العملية الانتخابية” نفسها، ما قبلها من تحضيرات، وما حدث في الصناديق وحولها، وما تلاها من أجواء احتفالية مبالغ بها.
مضت الآن قرابة خمسة أشهر على بداية ولاية إدارة جو بايدن، ولم يتم تعيين ممثل خاص لسوريا، وهو ما يعني بذاته أن سوريا ليست على سلم أولويات الإدارة الأميركية، وذلك بخلاف اليمن على سبيل المثال الذي أعلنت واشنطن إنهاء الحرب فيها أولوية. كما اتضح من تصريحات بعض أركان الإدارة والتحركات الدبلوماسية أن واشنطن مهتمة فقط بالعمل من أجل إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في سوريا. وهو ما يعني أن إدارة بايدن تحاول التغطية على سلبيتها في التعامل مع المشكلة السورية (وهي مشكلة سياسية أساساً) بـ”إرضاء ضميرها” إنسانياً. أظن أنه من السذاجة انتظار ما يتجاوز ذلك من هذه الإدارة، إلا إذا حدث شيء مفاجئ من شأنه أن يرغم الأميركيين على التعامل مع المشكلة السورية كحالة طوارئ، حدث من نوع ارتكاب النظام لمجزرة جديدة بالسلاح الكيماوي مثلاً. أو إذا بادرت روسيا إلى تقديم تنازلات للوصول إلى توافق مع واشنطن بشأن الالتزام بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، أي القبول بالانتقال السياسي. وهذا تغيير روسي، إذا حدث، لا أميركي.
على المستوى الميداني لا يتوقع، في المدى المنظور، حدوث تغيرات كبيرة في خارطة الانقسام القائمة بين الدويلات السورية الثلاث الرئيسية، مناطق النظام وشرق الفرات والمناطق التركية في الشمال، وإن كان النظام سيستمر في حربه المتقطعة ضد منطقة “خفض التصعيد” الرابعة في محافظة إدلب وجوارها، فالتفاهمات الروسية – التركية هي التي ستضبط إيقاع الوضع فيها، وإن كانت العلاقات بين هذين الفاعلين ليست في أفضل أحوالها حالياً، لكن وصولها إلى انقلاب دراماتيكي ليس بين التوقعات.
يبقى إذن أن “برنامج النظام” للفترة القادمة هو العامل الوحيد الذي يجب التدقيق فيه لمعرفة هل نحن أمام مرحلة جديدة أم لا. صحيح أن النظام المهترئ وفاقد الاستقلالية تجاه حلفائه الأقوياء، ليس في وضع يسمح له بوضع وتطبيق برنامج عمل بعيداً عن إملاءات وتدخلات أولئك الحلفاء، لكن يبقى أن لديه رغبة في رسم ملامح المستقبل، وقاعدة اجتماعية من الموالين المتمسكين ببقائه. فهل قدمت الفترة الانتخابية مؤشرات لبرنامج عمل يستجيب لصورة “سورية الأسد” كما يريدها النظام وبما يستجيب لآمال قاعدته الاجتماعية؟
لعل أول الجديد في الحملة الانتخابية وما تلاها هو المظاهر الاحتفالية المبالغ بها، في ظل أزمة اقتصادية خانقة تضغط بثقلها على الموالين وغير الموالين. من المنطقي، والحال هذا، أن نشكك في تعبير تلك المظاهر عن المشاعر الحقيقية للموالين، وأن ننسبها إلى إرادة مركزية قاهرة للناس. فبشار الذي سبق واعتبر الانتقادات المطلبية والشكاوى الاقتصادية الصادرة من الموالاة، في السنتين الماضيتين، ما يماثل الخيانة الوطنية، لن يتسامح بعد الآن مع أي مظهر من مظاهر التذمر. وفي كلمته بالغة العدوانية التي وجهها إلى قاعدته الاجتماعية، في أعقاب “فوزه” في الانتخابات، كان واضحاً بما يكفي لكي يتوقف النق بشأن انخفاض مستوى المعيشة وشروطها في البيئة الموالية، بصورة تامة.
كذلك كانت الأرقام المعلنة بشأن نسبة المشاركة في الانتخابات وعدد الأصوات التي حصل عليها، فاضحة في زيفها إلى درجة أنها كانت رسالة شديدة القسوة مفادها: “هذه الأرقام والنسب كاذبة، وأعرف أنكم تعرفون أنها كاذبة، ومع ذلك خياركم الوحيد هو التظاهر بأنكم تصدقونها”. فالنظام لا يهمه أن يصدقه محكوموه، بل يريدهم أن يتظاهروا بذلك وبـ”فرحتهم الكبيرة” بفوزه، بوصفه إعلان طاعة عمياء ورضوخ بلا حدود، كما صاغت ذلك الكاتبة الأميركية ليزا وادين في كتابها الشهير “السيطرة الغامضة”.
نقطة أخرى كانت مهمة، في الفترة الانتخابية، هي إدلاء كل من رفعت الأسد وعلي دوبا بصوتيهما علناً، وما يعنيه ذلك من مباركة من داخل العائلة والطائفة والنظام لبقاء بشار في السلطة وبشروطه. رفعت الذي لم يعترف بشرعية التوريث وكانت قناته التلفزيونية تبث محتوى معارضاً، وعلي دوبا الذي كان مختفياً في الظل، يظهران فجأةً على وسائل التواصل وهما يدليان بصوتيهما في انتخابات يعرفان أنه لا قيمة لمشاركتهما فيها كما لمشاركة جميع من شاركوا. خاصةً أن هذه المباركة قد جاءت بعد إقصاء رامي مخلوف وانشقاق هذا الأخير.
قد يقول قائل إن كل هذه الأمور لا تشكل مؤشرات لمرحلة جديدة مختلفة عن سابقاتها، ولا جديد في صورة “سورية الأسد” كما يريد النظام أن يرسمها بعد الانتخابات. لكنني سأزعم أن الرسالة التي انطوت عليها مسرحية الانتخابات بكل عناصرها المذكورة أعلاه، توجهت إلى جميع العناوين المعنية: القاعدة الاجتماعية للنظام أولاً، ثم سائر السوريين بمن فيهم المعارضون الذين تم إسقاط وطنيتهم وجنسيتهم، والدول الفاعلة، روسيا وأميركا والغرب والدول العربية، والأمم المتحدة، وفحواها ادعاء الشرعية الوطنية، وأن لا خيار أمامهم جميعاً غير الاعتراف بها وقبوله كما هو بلا شروط، بما في ذلك رفض نتائج أي “عملية سياسية” حتى لو كانت من نوع اجتماعات اللجنة الدستورية، ناهيكم عن قرارات مجلس الأمن.
هذا ما لم نره في انتخابات العام 2014، بل هو جديد تماماً. كذلك لا يَعِد النظام بالعودة إلى ما قبل آذار 2011، بل إلى مرحلة ما بعد مجازر حماه وسجن تدمر في 1982، تلك الفترة المظلمة التي امتدت إلى العام 2000، حين كان السوريون جميعاً تحت خطر دائم من وشاية واشٍ قد يدمر حياتهم، وتغولت أجهزة المخابرات بصورة غير مسبوقة. فإذا استتب الأمر للنظام، ولم يتعرض لإرغامات خارجية، وبخاصة من روسيا، فمن المحتمل أن تتحقق النبوءة المشؤومة التي أطلقها مصطفى خليفة، مؤلف رواية “القوقعة” في مقالة له نشرها في العام 2012، ويصور فيها بلداً محكوماً بالرعب.
ما لم يتوقعه خليفه في مقالته هو انقسام سوريا بين احتلالات عدة، أهمها احتلال الحليف الروسي الذي يملك مصير النظام، خادشاً بذلك تلك الصورة الكابوسية.
Social Links: