برهان غليون…عطب الذات وإشكاليات الثورة
ولد برهان غليون في حمص سورية في ٣ مايو ١٩٤٥ وتلقى فيها دراساته الابتدائية والاعدادية ثم انتقل إلى دمشق، لمتابعة دراساته في دار المعلمين وبعدها في جامعة دمشق، التي تخرج منها عام ١٩٦٩ بإجازة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية ودبلوم في التربية العامة. وانتقل إلى فرنسا منذ نهاية العام لمتابعة دراساته العليا. وحصل على شهادة دكتوراة الحلقة الثالثة في علم الاجتماع السياسي (١٩٧٤) من جامعة باريس الثامنة على رسالة حول الدولة والصراع الطبقي في سورية ١٩٤٥-١٩٧٠، تحت إشراف نيكوس بولانتزاس. وبعد محاولة فاشلة للتدريس في جامعة دمشق ١٩٧٤، عاد إلى باريس لاعداد دكتوارة الدولة في الفلسفة والعلوم الانسانية التي حصل عليها عام ١٩٨٢ عن رسالة حول أزمة الحداثة في المجتمعات العربية بعنوان : خطاب التقدم خطاب السلطة، فكرة الحداثة في الفكر العربي الحديث، تحت إشراف فرنسوا شاتليه. وخلال إعداده دكتوراة الدولة عمل في جامعة الجزائر كأستاذ محاضر في معهد العلوم الاجتماعية في العاصمة الجزائرية قبل أن يعود للاستقرار في باريس منذ عام ١٩٧٨، حيث عمل مستشارا في المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو، وتعاون مع العديد من مراكز البحث العالمية والعربية.
في عام ١٩٩٠ بدأ مسيرته الجامعية كمدرس ومدير للابحاث في جامعة السوربون االجديدة، ثم شغل كرسي استاذ الاجتماع السياسي في الجامعة نفسها منذ عام ١٩٩٦ كما أدار مركز دراسات الشرق المعاصر التابع لها. وخلال مسيرته الجامعية شارك برهان غليون في الكثير من المؤتمرات العلمية وحلقات النقاش والندوات الفكرية والثقافية، في العالم العربي والعالم، ونشر العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والكتب والمقالات الصحفية باللغة العربية واللغات الاجنبية، كما اشرف على العشرات من الرسائل الجامعية.
ولأن محور نشاطه كان العمل على تفكيك نظم السيطرة وآليات الإكراه التي تحول دون تحرر الانسان، أفرادا ومجتمعات، لم يفصل غليون بين النشاط العلمي والممارسة العملية، ويعتقد أنه لا يمكن للباحث الاجتماعي أن يفهم المجتمعات التي يدرسها من دون أن يكون شريكا في عملية التغيير والتحرر التاريخي التي تعيشها. لا ينبع هذا من منطق الالتزام ألاخلاقي والاجتماعي فحسب وإنما من منطق العمل الابستمولجي والمعرفة الاجتماعية ذاتها. فمن دون المعرفة تبقى الممارسة عمياء، ومن دون الممارسة والانخراط في الحركة الاجتماعية تظل المعرفة فقيرة وتأملية مجردة.
جمع غليون في أعماله النظرية بين نقد الثقافة ونقد السياسة ونقد المجتمع ونقد العولمة ونظام الهيمنة الدولية، طمح فيها إلى وضع أسس منهج نقد اجتماعي تاريخي يساهم في إعادة طرح الأسئلة وصوغ الإشكاليات ومعالجة المشاكل الكبرى التي تواجهها المجتمعات النامية، والعربية منها بشكل خاص، منذ بداية القرن الماضي، كما يجدد رؤيتنا للعديد من المسائل التي شغلت باحثي عصره حول حقيقة التحولات الجارية في هذه المجتمعات. فبخلاف ما كان سائدا من طروحات تربط مصير المجتمعات بماهية ثقافية ثابتة أو بنظم وتقاليد جامدة، وتنظر إليها كما لو كانت عوالم منفصلة عن بعضها، ركز غليون في تحليلاته للواقع العربي على ثلاثة عوامل :
الأول أنه لا توجد مجتمعات تعيش في حلقة مغلقة معزولة عن غيرها وقائمة بذاتها، تتحرك خارج نظام من العلاقات والتبادلات والتفاعلات الاقليمية والعالمية،
والثاني أن المجتمعات لا تعيش في تواريخ منفصلة ومتوازية وإنما تتفاعل في ما بينها في إطار زمني يزداد تشابكا وانصهارا باضطراد. ولهذا السبب لا توجد مجتمعات ساكنة وجامدة لا تتغير أو تعيد إنتاج نفسها ونظمها الثقافية والسياسية والاجتماعية وتبقى حبيستها إلى الأبد، وإنما، بالعكس، تشكل تطلعات الجماعات والشعوب إلى اللحاق بركب الحضارة القائمة، والاندراج بالعصر وتمثل قيمه، المنبع العميق لإرادة التحرر والانعتاق بمقدار ما تعزز الشعور بالسيطرة على المصير لدى الأفراد والجماعات.
والثالث أن هذا التفاعل الثقافي والتاريخي معا، سلبا وايجابا، بين المجتمعات والجماعات، والتداخل بين الأزمنة الخاصة والزمان العالمي، يشكل محور تاريخ الانسانية، والمدخل لفهم وحدة الحضارة وتقارب تطلعات الإنسان ووحدتها والنزوع الانساني الدائم ، في ما وراء الحروب والنزاعات والكوارث، إلى التضامن والوحدة.
لا تنفصل مسيرة غليون السياسية عن هذه المسيرة العلمية. وقد بدأت منذ السبعينيات بالانخراط إلى جانب حركات المقاومة الفلسطينية، وبمشاركته في النشاطات الفكرية والسياسية ضد الديكتاتورية الدموية التي اكتسحت العالم العربي، وبسبب ذلك صدر ضده ورفاقه عام ١٩٧٥ حكم غيابي بالسجن ،وسحبت السلطات السورية جواز سفره. واضطر إلى طلب اللجوء السياسي في فرنسا، ومنها تابع نشاطه السياسي وساهم عام ١٩٨٣ مع مثقفين واكاديميين عرب في تأسيس “المنظمة العربية لحقوق الانسان ” التي اتخذت من القاهرة مقرا لها. كما ساهم في تنشيط منتديات ربيع دمشق الذي انطلق بداية عام ٢٠٠١ وشارك في تشكيل تجمع إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، عام ٢٠٠٥، الذي هدف إلى تأسيس جبهة واسعة لقوى المعارضة الديمقراطية السورية.
جاءت ثورات الربيع العربي عام ٢٠١١ التي أطاحت بأطروحات الاستثناء العربي الذي سوق له العلم الاجتماعي الثقافوي السائد، لتؤكد حيوية المجتمعات العربية وتطلعها العميق، كبقية مجتمعات العالم، نحو الحرية والانعتاق. فوقف غليون بكل ثقله خلفها وكرس لها الجزء الأكبر من وقته وجهده النظري والعملي. ، وعندما اندلعت ثورة آذار مارس ا٢٠١١ في سورية بعد ثورات تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا برز اسم برهان غليون كأحد أبرز المرشحين لقيادة المعارضة السورية وتوحيد شتاتها وحشدها وراء الثورة الشعبية. فأختير في ٢ تشرين اول اكتوبر ٢٠١١ أول رئيس للمجلس الوطني السوري، الذي جمع تحت لوائه أوسع فئات المعارضة وممثلي نشطاء الثورة الميدانيين، واستقبل المجلس بحماس بالغ من الرأي العام السوري والنشطاء والمجتمع الدولي واعترف به الممثل للشعب السوري من قبل أكثر حكومات العالم. وأصدر العديد من الوثائق السياسية المهمة وفي مقدمها وثيقة العهد الوطني التي رسمت ملامح سورية الجديدة دولة ديمقراطية مدنية وتعددية تساوي بين السوريين جميعا، بصرف النظر عن الدين والقومية والطبقة الاجتماعية والجنس، وتعمل على تعزيز وحدتهم وتضامنهم.
في ١٧ أيار مايو ٢٠١٢ قدم غليون استقالته من رئاسة المجلس احتجاجا على تنازع قوى المعارضة وانقسامها الذي شل نشاطه، وعاد إلى العمل في صفوف النشطاء السياسيين لتنسيق الجهود والمبادرات من أجل مواجهة الانقلاب الدموي على الشرعية الشعبية، والعمل، في موازاة هذا النشاط، على وضع مراجعة نقدية لتجربة الثورات العربية واستخلاص دروسها التاريخية التي تحتاج إليها الشعوب في معاركها القادمة من أجل الكرامة والحرية والسلام.
يعد غليون أحد المساهمين في النقاش الفكري والسياسي حول مستقبل العالم العربي وسوريا بشكل خاص.
بدأت نظرته حول الإصلاح السياسي تتبلور مبكرا حينما أصدر عام 1986 كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” ودعا به الدولة السورية إلى فتح باب المشاركة الديمقراطية أمام الجميع، وواصل درب النضال السياسي عبر بوابة البحث الأكاديمي حيث نشر أبحاثا تنتقد أنظمة الحكم في العالم العربي وتُنظّر للديمقراطية المنشودة.
المؤلفات
أصدر غليون عدة كتب حررت باللغتين العربية والفرنسية، منها “الاختيار الديمقراطي في سوريا”، و”العرب وتحولات العالم”، و”المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة” وأخرها كان كتاب “عطب الذات” والذي أثار عاصفة من الجدل لتناوله فترة اندلاع الثورة حتى تشكيل المجلس الوطني وماكان يجري من تحالفات وتفاهمات أثرت بشكل سلبي على مسار الثورة وسلميتها كما جاء في الكتاب، الكتاب الذي اعترف من خلاله الدكتور غليون بأخطاء فادحة سقطت بها المعارضة السياسية والعسكرية للأسد، السبب الأول والرئيس الذي يعيد إليه برهان غليون فشل “الانتفاضة” أو الثورة السورية هو عدم توفر “قيادة فعلية”. ويوضح:
“ولا أقصد بالقيادة هنا شخصية قيادية، وإنما نخبة سياسية متفاهمة ومتكاملة ومتعاونة لتحقيق أهداف الشعب أولاً. وتوحيد صفوف المعارضة وصفوفه معاً، ومدركة للمسؤولية التاريخية التي تقع عليها”.
وقد كرس معظم كتابه نقداً مقزعاً للقيادات والتجمعات والأفراد الذين تصدوا للقيادة، وما اتسموا به من صفات دونية، أو سلبية لم تسمح لهم أن يتوحدوا، ويحسنوا إدارة الصراع.
ويشير الدكتور برهان غليون في الصفحة رقم 488 إلى ما نشب في سورية من صراعات وتدخلات وتطورات وحروب. فيقول:
” ما كان لدى المنتفضين والمعارضين السوريين أي إمكانية لتوقع تقاطع هذه الحروب على أرضهم، وتقاطعها مع حروب النظام، للحفاظ على بقائه قبل أن ينخرطوا في الثورة، ولم يكن في استطاعتهم وقفها بعد اندلاعها، أو الحيلولة دون استمرارها، بعد ذلك. هذه ديناميات تاريخية وجيواستراتيجية لا يمكن لعباقرة التحليل السياسي والاستراتيجي توقعها. ومن باب أوْلى لمعارضة محلية مقطوعة كلياً عن مناخات السياسات الدولية. وأكثر من ذلك لجمهور شعبي رمى بنفسه في معركة خاضها من قبله، وفي محيطه، أكثر من شعب من دون أن تثير كوارث استثنائية”.
ويستدرك:
“لكن آثارها ومفاعيلها كانت بالتأكيد ستكون مختلفة لو توافر للانتفاضة والمعارضة قيادة فعلية”.
كما أصدر كتبا فكرية أخرى، مثل “اغتيال العقل”، و”الإسلام والسياسة.. الحداثة المغدورة”، و”مجتمع النخبة”.
ومن مؤلفاته الأخرى “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، و”ثقافة العولمة وعولمة الثقافة”، و”بيان من أجل الديمقراطية”.
حرر مئات المقالات التحليلية التي تناولت بالبحث والدراسة مواضيع سياسية واجتماعية في الوطن العربي ونشرت في صحف عربية مختلفة.
Social Links: