في أبريل 2020 تم إطلاق تطبيق “الكلوب هاوس”، وهو تطبيق من تطبيقات التواصل الاجتماعي؛ يعتمد الدردشة الصوتية فقط، أي إنه قائم على الصوت، وليس على كتابة النص. مما يجعله يبدو وكأنه “بودكاست” تفاعلي أو مكالمة صوتية جماعية.
يتيح التطبيق محادثة صوتية لعدة أشخاص قد يصل إلى ال5000 شخص، ولم يكن التطبيق متاحا عند إطلاقه إلا لمن يمتلكون أجهزة “آي فون” لكنه بعد نحو عام من توفره لمستخدمي هواتف آيفون، أصبح تحميل تطبيق كلوب هاوس Clubhouse متوفراً الآن لمستخدمي أندرويد.
ويقول “بول دافيسون” و”روهان سيث”، مؤسس تطبيق Clubhouse إن هدفهما من هذا التطبيق هو “بناء تجربة اجتماعية تبدو أكثر إنسانية، حيث يمكنك بدلاً من النشر، الاجتماع مع أشخاص آخرين والتحدث سويا”.
ويضيفان: أنه في أي ليلة، هناك الآلاف من الغرف المختلفة التي يمكن للأشخاص الانضمام إليها لإجراء محادثات مباشرة.
في كل غرفة يعمل “المضيفون” كمشرفين على المحادثات، ويمكن لمن في الغرفة رفع أيديهم، افتراضيًا، لتشغيل “ميكروفوناتهم” كي يتم إعطاؤهم فرصة للتحدث.
باختصار؛ يتيح لك كلوب هاوس إنشاء (غرف) والانضمام إليها. يمكنك الدردشة مع الآخرين في مكالمة صوتية جماعية كبيرة. لا توجد صور، أو مقاطع فيديو، أو حتى نصوص – فقط صوت – ويمكن للمستخدمين الانضمام ومغادرة الدردشة في أي وقت.
ما يحدث في غرف الكلوب هاوس هو انعكاس حقيقي لغياب ثقافة الحوار في المجتمع السوري
منذ أن أصبح بإمكان أجهزة الأندرويد استخدام التطبيق تضاعف عدد مستخدميه، وتدفق السوريون بأعداد كبيرة، وأصبح بإمكانك أن ترى كثيرا من الغرف التي يديرها ويتحدث بها سوريون.
لكن كيف يتحاور السوريون في غرف الكلوب هاوس؟
ما يحدث في غرف الكلوب هاوس هو انعكاس حقيقي لغياب ثقافة الحوار في المجتمع السوري، هذا الغياب ليس أزمة طارئة استحدثتها وقائع السنوات العشر الأخيرة، وليس بسبب ازدياد حدة الانقسام داخل بنيات المجتمع كنتيجة للحرب والعنف فقط، إنه انعكاس أزمة أصيلة متجذرة لها جذورها التاريخية الممتدة عميقا في التاريخ، وهي تجل صريح لتراث ثقافي متعدد الطبقات ينفي الحوار ويحرمه، ويكفره.
إن ثقافة المجتمع السوري السائدة تاريخيا هي ثقافة اللا حوار، ورغم أن لتسيد ثقافة اللا حوار ما يفسره في زمن الاحتلالات المتعاقبة، لكنه في زمن ما بعد الاستقلال، وبعد أن بدأت براعمه بالتفتح، تم سحقها بمنهجية وعنف، وتحولت كل البيئات المولدة للحوار وثقافته، إلى بيئات نابذة للحوار ومعادية له، بدءا من الأسرة، والعائلة ومرورا بالمدرسة والجامعة، وصولا إلى الأحزاب والنقابات و..و..
من المفترض أن تكون الثورة السورية قد خلّقت من جديد بيئة حاضنة للحوار، وأن تكون قد أرست بعد عشر سنوات أسس حوار واع ومسؤول، وأن تكون أيضا قد أسست مؤسساته ومكنتها من لعب دورها، ومن ترسيخها كحاجة ماسة لمجتمع يولد من جديد، ويعيد صياغة أولوياته، وحاجاته العليا.
من يتابع معظم غرف السوريين في الفسحة الجديدة التي أتاحها تطبيق Clubhouse يمكنه أن يرى بوضوح تعثر هذا الحوار، وغياب معظم مرتكزاته، وتحوله إلى ما يشبه الجدل المحمل بشحنة عالية من العصبية، التي لا تريد أن تفهم الآخر المختلف، ولا أن تفهم وتتفهم أسباب هذا الاختلاف، بل تريد هزيمته، وإن أمكنها سحقه، كأي استبداد، لكن باختلاف الأدوات.
غياب منهجية الحوار، وضياع الهدف الأساسي الذي يكون محور الحديث، وبالتالي الانتقال السريع إلى مواضيع جديدة تتشعب عن المحور الأساسي، لتصبح بعد قليل بعيدة جدا عنه
قد يكون لحداثة التجربة دور في عدم نضج آليات الحوار داخل هذه الغرف، رغم أنه من المفترض أن تكون مقومات نجاح الحوار متوفرة فيها، فهي غالبا (أقصد غرف التطبيق) تضم مجموعات متجانسة في إطارها العام موالاة، معارضة، علمانيين، رافضين للعلمانية، دينيين، لا دينيين.. إلخ. لكن هذا الإطار العام سرعان ما يتحول إلى جبهات صراع، وجدل منفعل عند أي اختلاف بوجهات النظر.
أهم سمات الحوار السوري داخل معظم غرف الـ Clubhouse هو:
1- غياب منهجية الحوار، وضياع الهدف الأساسي الذي يكون محور الحديث، وبالتالي الانتقال السريع إلى مواضيع جديدة تتشعب عن المحور الأساسي، لتصبح بعد قليل بعيدة جدا عنه.
2- عدم التأصيل لمعظم الأفكار المطروحة، وغياب المعلومات الموثقة، والأرقام، لتدعيم وجهة نظر قائلها، وتحول معظم المداخلات إلى ارتجالات ذاتية قد يكون مصدرها تجارب شخصية ضيقة، أو أفكار متداولة رغم خطئها.
3- غياب الموضوعية، والتي تعني أولا فهم الرأي الآخر المختلف، والتي بغيابها لا يعود للحوار أي معنى.
4- غياب أسس الحوار الأساسية من فترات التحدث المتساوية للأفراد، إلى ضبط الحوار في محوره الأساسي وعدم تشعبه، إلى تجنب الإهانات، وصولا إلى عدم المقاطعة، والتنبه لنبرة الصوت، وتحضير المداخلة و..و..إلخ.
5- غياب وعي المسؤولية عن إنجاح الحوار، فالحوار هو المعبر عن ديالكتيك التطور الاجتماعي كونه الآلية الأكثر استخداما في التاريخ البشري لتوليد الأفكار والرؤى الجديدة، وتغليب الأفكار الأصلح، وبالتالي فإن إنجاح الحوار يجب أن يكون الهدف الأساسي للمتحاورين.
6- استسهال البعض للإساءة لآخرين، وتخوينهم، والتعدي عليهم، دون أن يكون مطالبا بتدعيم ما يقوله.
7- بدايات تشكل الشللية والمحسوبيات، وتشكل جماعات تشبيح تمارس تنمرا صفيقا على أشخاص آخرين لغايات سياسية، أو لحسابات شخصية.
كثيرة هي الملاحظات التي يمكن الحديث عنها عن الحوارات التي ينخرط فيها السوريون عبر تطبيق Clubhouse، لكن يمكن التفاؤل قليلا بأن بدايات هذه التجربة المليئة بكل هذه الأخطاء لن تبقى كذلك، وأن الزمن سيفرض على الجميع الانتباه جيدا إلى قواعد الحوار، وأن هناك حوارات يمكن التعويل عليها في لعب دور مهم لتقارب السوريين واستماعهم للصوت الآخر باحترام مهما يكن الاختلاف بيّناً.
Social Links: