لا أحد يكذب في العالم، الجميع يقولون الحقيقة، مهما كانت قاسية أو مؤلمة أو غريبة. يقولون ما يفكّرون به من دون أي حسابات، إذ لم تكن الحسابات في خاطر أحد. الجميع يعبّرون عن مشاعرهم كما هي، من دون أي تزييف أو مراعاة لأحد… مارك بيلسون كاتب سينمائي فاشل، ليس لأنه بلا موهبة، بل لأن الشركة السينمائية التي يعمل فيها أوكلت إليه مهمة الكتابة عن القرن الرابع عشر، وعن الطاعون الأسود الذي اجتاح العالم في ذلك القرن. لا شيء جميل وممتع في المرض والموت، ولا يمكنه اختلاق أحداثٍ من خياله، فالخيال من أنواع الكذب، والكذب ليس معروفاً. يُفصل من عمله، ويطرده صاحب الشقة التي يعيش فيها ليصبح في العراء، حين يذهب إلى المصرف لسحب نقوده المتبقية في حسابه، وهي 300 دولار، يحدُث خطأ بسيط، يكتشف معه “الكذب”، وهنا تبدأ حياته بالتغير. مع اكتشافه الكذب يكتشف كيف يمكنه استخدام خياله، فيخترع حكاية أسطورية عن القرن الرابع عشر، وتنتجها شركة السينما فيلماً يحقّق نجاحاً مهولاً، ويكسب مالاً كثيراً.
أما نقطة التحول الكبرى فهي لحظة موت والدته المقيمة في دار العجزة. كانت خائفةً من الموت والعدم، إذ لم يكن الخيال عن “العالم الآخر” والأبدية والثواب والعقاب موجوداً، فيستخدم مارك خياله، ليحكي لها عن النعيم الذي ستلاقيه بعد الموت أمام طاقم المستشفى الذي نقلت إليه، فيذهب خوفُها وتموت وهي مبتسمة. وينتشر الخبر في العالم عن الرجل الذي يعرف ماذا سيحدُث بعد الموت. تحاصر منزله وكالات الأنباء، فيضطر إلى خلق فكرة “الرجل الذي يعيش في السماء ويعرف كل شيء”، والذي يخبره عما بعد الموت. مع مارك بيلسون إذاً يبدأ اختراع الكذب الذي لا يعرفه أحد سوى ابنه الصغير. هكذا يبدأ الكذب بالانتقال من جيل إلى جيل.
تلك هي حكاية فيلم “اختراع الكذب” (the invention of lying). أميركي كوميدي أنتج عام 2009، من تأليف ريكي جيرفيه وإخراجه وبطولته (منتج ومخرج وممثل كوميدي بريطاني). يُعرض الفيلم الآن على منصة “نتفليكس”. حقق إيرادات عالية في عام عرضه، على الرغم من غرائبيته، لكنه فيلمٌ ممتعٌ بحق، ويكشف عن خبايا النفس الإنسانية بطريقة كوميدية وسهلة وخفيفة، مثلما يقدم منشأ “فكرة” الأديان، من دون إيديولوجيا مضادّة، ومن دون نظريات كبيرة، فالخوف من المجهول، (الموت) وهو المجهول الأكبر، هو خلق فكرة الأديان، حسب صنّاع الفيلم. وبالعودة إلى الأساطير القديمة ونشوء الآلهة، دائماً كان الخوف من الظواهر المجهولة هو ما يدفع إلى اختراع ما يُبعد أذى تلك الظواهر، الشمس والنار مثلاً. منشأ فكرة الموت والبعث في الديانات القديمة الخوف الأزلي من الموت، وتطوّرت مع تعاقب الزمن، لتصل إلى شكلها الحالي، والذي يبدو نهائياً.
بعيداً عن الموت والخوف منه، ماذا لو كان العالم فعلاً كما قدّمه صناع الفيلم، عالماً من الحقائق، لا يعرف أحدٌ فيه شيئاً عن معنى الكذب؟ كيف سيكون شكل هذا العالم؟ الفيلم يقدّم البشر متعايشين مع فكرة قول الحقيقة كما هي. لا أحد يغضب من أحد إن قال له إنه مثير للاشمئزاز مثلاً، فهو يقول ما يشعر به، وعلى الآخر تصديقه واعتبار ذلك نافلاً. قد يكون هذا العالم مثالياً، خالياً من الاضطرابات النفسية التي تتشكّل في العقل الباطن من الخوف. ليس الخوف من الموت فقط، بل من الحياة والبشر والطبيعة. مع عالم الحقائق، يبدو كل شيء واضحاً وصريحاً، ولا أحد فيه يستغرب ما يقال أو يحدث، إذ إن الوضوح والحقائق يتيحان معرفة ماذا سيحدث بعد قليل من دون توقعات، فالتوقعات ينتجها الخيال، والخيال ضد الحقيقة، والحقائق، بكل قسوتها وشراستها، هي ما يحكم علاقات البشر، إنه عالم مثالي حتماً… أليس كذلك؟
لكن مهلاً، هذا العالم، بلا عواطف، بلا مشاعر، عالم بارد، خالٍ من المفاجآت، خالٍ من الشغف والتشويق، عالم خالٍ من الفنون، من السينما، من الشعر، من الأدب، من الاختراعات، من التطوّر العلمي، من كل ما يعتمد على الخيال البشري في وجوده، فالخيال هو “الفعل أو القوة لتشكيل صورةٍ ذهنيةٍ لشيء غير موجود للحواس، أو لم يسبق له مثيل في الواقع، هو القدرة الإبداعية لعقل الإنسان”، حسب تعريفات بعض الفلاسفة. هو باختصار اختراع ما يتجاوز الحقيقة، وهو ما يمنح للحياة طراوتها وليونتها التي تعمل الحقائق المحضة على جعلها جافّة وقاسية. تخيّلوا حياتكم بلا كلمات إطراء، بلا غزل، بلا أحلام يقظة، بلا توقعات، ألن تكون بالغة البؤس؟
Social Links: