ليس هناك أكثر سطوةً أو عنجهية من الممارسات الأميركية تجاه الخارج؛ والأمر ذاته ينطبق على الروس؛ ولكن ليس في الخارج فقط، بل في الداخل أيضاً. في العقد المنصرم، تجاوزت العلاقات بين الدولتين الحرب الباردة بتوتراتها. وما توصلت إليه قمتهما مؤخراً إلا طرح قائمة بتلك الأمور، وتحويلها وترحيلها إلى لجان لمناقشتها، في مسعى لحل العقد المتجذرة فيها.
لكل من هذه اللجان طيف خاص للعمل: من الجانب الأميركي، سيكون المراقبة، والانتظار، والرصد للسلوك الروسي تجاه القضايا بين البلدين؛ وتحديداً، فيما إذا كانت روسيا ستستمر بالتشبيح العسكري والسيبراني والسياسي، أم أنها ستلتزم مسلكاً طبيعياً (بالمفهوم الأميركي) يساهم بحل عقدها أو فك أحمالها؛ ما ينعكس إيجابياً على حل الصراعات والتوترات والأزمات الدولية المتدخلة بها روسيا بوتين. وكل ذلك سيكون مسجلاً أميركياً- تماما كما تم تسجيل استخدام روسيا للفيتو لحماية الإجرام الأسدي في سوريا، كمثال صارخ- وهذا ليس لأن أميركا مغرمة بتصفير الصراعات والتوترات والأزمات العالمية، بل لأنها تريد سير العالم على هواها، وحسب مصالح “الكبير الكبير”. في الجانب الروسي، هناك خشية- وهذا ربما ما تتوقعه أميركا- أن يستمر النهج الروسي بالبهلوانية والتشاطر والتذاكي والتدليس والخداع، وتحديداً قول شيء والتصرف عكسه، وإعطاء الإيحاء بتغيّر السلوك.
بالحسابات البسيطة، ومهما كانت السياسة الروسية على درجة من البهلوانية، إلا أن التغيير أمر حتمي، فحتى الرعديد والبلطجي على المستوى الفردي تنتابه خشية، إن لم نقل: “خوف في لحظات حاسمة”، وخاصة عند وصوله إلى حافة الهاوية- لا لأخلاق فيه، ولا لاحترام للقانون- بل لاستشعار ثبات الخصم، الذي يكشف ويعري حقائقه، ويتمترس بقوة عند موقف “الكبير الكبير” المتجبر. وهذا بالضبط ما تبدّى مِن حال بوتين و”سياسته الخارجية”، التي تكشفت في لقاء جنيف.
اعتبر بوتين مجرد اللقاء مع رأس ذلك الضد منجزاً، حيث رأيناه يسعى لإيصال رسائله الدفاعية في مؤتمره الصحفي
رغم كل ذلك، لا بد من القول إن الاستخفاف بقوة روسيا كدولة تزيد مساحتها على العشرة ملايين كم مربع، وخيراتها الوازنة، وقدرتها النووية الجبارة، وشعبها العظيم، سذاجة ما بعدها سذاجة؛ ولكن كل ذلك الجبروت للأسف يقع أسيراً لإرادة هاجسها فردي، تحكمه ذات متضخمة تمارس الدكتاتورية؛ ولا تخشى إلا من جبروتٍ أوزن. وفي الحالة الروسية، تمثل أميركا ذلك الضد الجبروتي. ومن هنا، ربما اعتبر بوتين مجرد اللقاء مع رأس ذلك الضد منجزاً، حيث رأيناه يسعى لإيصال رسائله الدفاعية في مؤتمره الصحفي، محاولاً البحث عن أي منتجٍ للقاء. كانت مضامينه الدفاعية انعكاساً للإدانة، التي وصلته في اللقاء. كان بوتين يعرف ما يكنّه له خصمه المدعوم بكونغرس متناغم معه- بعكس سلفه ترامب المنفصم عن المؤسسة الأميركية الحاكمة. لقد وجد بوتين نفسه أمام أحد أركان تلك المؤسسة، رجل يدعمه الأقوياء ويحتضنه “الناتو”؛ وهو يريده الآن بمهمة أخرى، ربما تجاه الصين. ومن جانب آخر يدفعه باتجاه التخلّي عمَّن يستقوي بهم، أو يعتبرهم أوراق مساومة بيده كإيران والمنظومة الأسدية. تلك المهمات ستكون ربما بين المحددات السلوكية لخلاصه وتخفيف أحماله.
أصيب كثير مِن السوريين بشيء من الإحباط، عندما لم تحتل قضيتهم أولوية في تلك القمة؛ وهذا طبيعي؛ ولكن المفارقة تكمن بأن الأمور المُتفق عليها عادةً قلما تنال اهتماماً إعلانياً أو إعلامياً. ولهذا نجد أن بوتين لم يذكرها علناً، فهي لم تحتج لمرافعات دفاعية من قبله؛ ولكن بايدن من جانبه تطرق إليها؛ وكأن ما يتوجب على بوتين أن يقوم به، هو التنفيذ، كجزء من الأدلة على تغيّر السلوك. ومن هنا كان من بين المقدمات للقاء القمة حديث “بوغدانوف” عن إمكانية انتخابات مبكرة في سوريا، وحديث بوتين لل NBC حول سؤاله عن بديل للأسد؛ وكأنه يقول للأميركيين إن الأمر بيده، ومقدور عليه. وما ردُّ الأميركيين / حسب قوله/: we don’t know » ” لا نعرف” إلا إشارة بأن “المشكلة مشكلته”.
مشكلة بوتين الحقيقية تكمن بأن الأميركيين تفّهوا له ورقة المساومة هذه، وجعلوها كذراع يدور في الفراغ؛ والرسالة وصلته، بأنه بوجود هكذا منظومة استبدادية بدمشق، لن يكون هناك استثمارات في إعادة إعمار، ولا رفع عقوبات، ولا عودة لاجئين، ولا علاقات مع هذه الطغمة، التي عبّر الأميركيون بصريح العبارة أنهم لا يثقون بها.
العين الروسية الحمراء تجاه إيران لن تضع أميركا على المحك، وإنما ستُكسِب روسيا تعاطف ودعم كل مَن يقلقه مشروع إيران العبثي التدميري لمحيطها وخاصة في الخليج العربي
في جوهر ما حدث، لا يمكن أن تكون الصورة في ذهن بوتين حول العلاقة مع هذا الغرب أكثر وضوحاً. وما عليه إلا أن يتوقف عن تكرار التجارب ذاتها بالأدوات والآليات ذاتها، وخاصة بالنسبة للقضية السورية. لا ينفعه إلا وضع التوجه الأميركي تجاه القضية السورية على المحك؛ وذلك غير ممكن إلا بامتحان ما هو معلن على جدول الأعمال الأميركي حول سوريا: أميركا تتحدث كثيراً عن تطبيق القرار الدولي 2254، فما عليه إلا أن يذهب بهذا الاتجاه إلى نهايته فعلياً، وهنا يحل مشكلة “البديل” التي بدوره يضخمها، وأميركا تتظاهر بالتناغم معه. عليه الخروج من تصوير كل مَن يعارض النظام الأسدي كإرهابي، ووقف العمل باستراتيجية نسف مصداقية الثورة والمعارضة. عليه التوقف عن الدعم المجاني والمكلف لإيران؛ الأمر الذي يُحسَب أميركياً عليه؛ فإشكاليات إيران معه ربما تكون استراتيجياً أكبر مما هي مع أميركا. العين الروسية الحمراء تجاه إيران لن تضع أميركا على المحك، وإنما ستُكسِب روسيا تعاطف ودعم كل مَن يقلقه مشروع إيران العبثي التدميري لمحيطها وخاصة في الخليج العربي.
من جانبهم، ما على أهل القضية السورية فعله؟ بداية لا يمكن تغيير نهج منظومة الاستبداد التي تعنى فقط ببقائها، حتى ولو انتهت سوريا وأهلها. وإذا استحال فعل شيء تجاه مَن ربط مصيره طوعاً وعقيدة ومصلحةً مع هذه القوة الإجرامية؛ فإن الأخذ بيد مَن هو خائف ومضطر ومغصوب- ولكن يعي الحقيقة- أمرٌ ممكن. أما مَن ثار وعارض علناً، فالعبء الأكبر يقع عليه. ثورة الشعوب كالطلَقة؛ إذا خرجت، لن تعود. وأضحى معروفاً أنه لم تجتمع قوى وعثرات على ثورة لقتلها كما اجتمعت على ثورة السوريين. ومن هنا، على السوريين الاستمرار برؤية الهدف النبيل لثورتهم: الحرية والانعتاق من الظلم. بيدهم مليون وثيقة تدين وتجرّم مَن فعل بهم وببلدهم كل هذا. عليهم الصبر على بعضهم البعض قليلا؛ ويوم الحساب، لمَن خذل أو أساء أو قصّر أو تلاعب، لن يطول وقته. عليهم إعادة تنظيم أنفسهم بمؤسسات أكثر فاعلية، لا إقصاء أو رخص أو ضغائن أو أنانيات أو صِغر أو حماقات فيها. مؤسسات تدرك أن حقها كالرمح، وهدفها نبيل، وإرادتها فولاذية، وعقلها نيّر. عندها سيكون البديل؛ ليس فرداً بل خادماً تنصّبه إرادة ورأي ومبادئ تعتمد المواطنة الكريمة نبراساً، والحرية قيمة، والسيادة حداً. عندها ستُحَلُ المشكلة الروسية – الأميركية في إيجاد بديل؛ وينبثق الحل في إعادة سوريا وأهلها إلى سكة الحياة
Social Links: