ياسر هلال – المدن:
إذا كان هناك في لبنان وسوريا والعراق، من يعتبر أنه جزء مؤثر في التطورات الإقليمية ويتطلع لأن تأتي لصالحه ليسجل نصراً مؤزراً على شركاء الوطن، فليراجع حساباته، قبل ان يكتشف انه يتطلع إلى سراب. فهذا زمن التحولات والتسويات الكبرى لا زمن الانتصارات الحاسمة. والعاقل من يختار التسوية الداخلية مهما كانت، ويقرر ان ينتظر التسوية معززاً مكرماً في وطن موحد ودولة بالحد الأدنى، بدلا من الانتظار على قارعة الطريق مشرداً أو مقتولاً.
لنراجع، بعيداً عن التحليلات والتنميات، بعض الوقائع والتطورات المتعلقة بالقوى الفاعلة خاصة أميركا وروسيا:
* تعاني أميركا تراجعاً خطيراً في عناصر قوتها الخارجية العسكرية والسياسية والاقتصادية، كما تعاني من تراجعأ أكثر خطورة في عناصر قوتها الداخلية خاصة على صعيد تدهور العلاقة بين المكونات العرقية والطبقية وانهيار قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان التي بنت عليها مجدها وسيطرتها على العالم.
* تعتبر أميركا أن الصين تشكل التحدي الأكبر لها، باعتبارها قوة منافسة ومزاحمة في قيادة العالم، في حين تتعامل مع روسيا كقوة مشاكسة على الصعيد الإقليمي وفي ملفات محددة.
* حدد بايدن هدفين استراتيجيين لرئاسته؛ الأول إعادة ترميم البيت الداخلي وإحياء قيم العدالة والديمقراطية محلياً وعالمياً. والثاني، ترميم وتقوية تحالفات أميركا مع القوى الكبرى في أوروبا واليابان وبعض الدول الأسيوية لمواجهة الصين.
* يواصل بايدن تنفيذ سياسة سلفه بالخروج من الإدارة المباشرة للنزاعات الإقليمية والتدخل العسكري فيها، خاصة في الشرق الأوسط (الانسحاب من سوريا والعراق وافغانستان، تخفيض الوجود العسكري في الخليج وسحب بطاريات الصواريخ، تأييد حل الدولتين في فلسطين الخ…). ولكن مع المسارعة إلى التأكيد على أن ذلك ليس خوفاً من الهزيمة أمام إيران وروسيا، وليس طبعاً للتفرغ لمواجهة الصين كما يقول البعض، فالمواجهة مع الصين تشمل كل العالم وكل المجالات والميادين، وهذه المنطقة تشكل تاريخياً منطقة نفوذ تقليدية للولايات المتحدة وأوروبا، والتنازل عنها لروسيا يقوض قدرتها على مواجهة الصين.
ماذا تريد أميركا؟
سؤال صعب في ظل ما يظهر من تخبط في السياسة الخارجية، ولكن يمكن القول بحذر أنها تريد إحكام سيطرتها على المنطقة بمقاربة جديدة، قوامها “الإدارة عن بعد”. وهو ما يتطلب عدم الالتزام بحماية او الدفاع عن أي دولة أو جماعة وإبداء الاستعداد للتضحية بكل الحلفاء مهما بلغت أهميتهم. أليس ذلك ما يحدث مع النظام الافغاني الذي تركته لقمة سائغة لطالبان، ومع الأكراد في سورية والعراق، ومع السعودية ودول الخليج، ومع حكومة الكاظمي في العراق، وربما مع جماعتها في لبنان في أي وقت. ولتقوم بدلاً من ذلك بإدارة النزاعات المستعصية بتوكيل الملفات الباردة للحلفاء الأوربيين، والملفات الساخنة مثل سوريا لروسيا ولكن بعد التوصل إلى اتفاق واضح معها أو الأصح تجديد وتوسيع الاتفاق الذي تم بموجبه دخول روسيا إلى سوريا في العام 2015. وتشمل هذه المقاربة بالطبع النزاع مع إيران بأضلاعه الثلاثة؛ الاتفاق النووي، الصواريخ الباليستية، والنفوذ الإقليمي. وبالطبع فإن نجاح أميركا في مقاربة “ضلعي الصواريخ والنفوذ” يحتاج بالدرجة الأولى إلى موافقة ومشاركة روسيا، وبالدرجة الثانية إلى تنسيق وتوافق بين أميركا وأوروبا والقوى الإقليمية مثل تركيا ومصر والسعودية وإسرائيل.
الجزرة…
يعني ذلك ان إبرام صفقة مع روسيا، هو شرط أساسي لنجاح هذه المقاربة، وعليه أعدت أميركا عدة الشغل ممثلة “بكمية من الجزر والعصي”. وتم تقديم الجزرة الأولى “بتغليف متقن” في قمة جنيف بين بوتين وبايدن. وشكل اللقاء في حد ذاته انتصاراً لبوتين، لأن بايدن هو من بادر بالدعوة له، ما وضع روسيا في موقع الند والشريك كامل المواصفات مع أميركا في قيادة العالم. كما أبدع القيصر خلال اللقاء في استعراض قوته، في حين بدا بايدن عن قصد او غير قصد كمن يقدم التنازلات لشراء ود الأعداء. وهو ما عبرت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” بقولها: “أن أي رئيس غير بادين كان خرج من القمة محبطاً أو غاضباً، ولكن مقاربته للاجتماع جاءت متسقة مع السمة الراسخة لرئاسته، وهي “الإيجابية المطلقة” أو ما يعتبره بعض النقاد “سذاجة مقلقة”.
هذا في الشكل، أما في المضمون، فقد حرص بايدن على “تقديم المزيد من الجزر” في ملفات عدة لم يكن آخرها الاستجابة الأميركية للضغوط الألمانية للتراجع عن العقوبات ضد مشروع بوتين الاستراتيجي “نورد ستريم 2”. إضافة إلى هدايا بالجملة في سوريا وآخرها الإعلان عن عدم تجديد الإعفاء الذي منحه ترامب لشركة “دلتا كريسنت إنيرجي” الأميركية للعمل في حقول النفط السورية، ولتعلن بعد ذلك مباشرة بعض الشركات الروسية عزمها الحصول على تراخيص للعمل في تلك الحقول. يضاف إلى ذلك السكوت بل “مباركة” سيطرة روسيا في سوريا، والتجاوب مع رغبتها في تعويم النظام السوري والانفتاح الأوروبي والعربي عليه. وقد نشهد الشهر المقبل، “جزرة جديدة” تتمثل برفع بعض العقوبات مقابل موافقة روسيا على عدم استخدام حق النقض على تجديد تفويض الأمم المتحدة بتقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود في سوريا. ولتبقى “الجزرة الأكبر” هي الموافقة غير المعلنة على تحقق الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة وتوسيع قاعدتي حميميم وطرطوس وربما بناء قاعدة جديدة في ليبيا.
… والعصا
لنلاحظ أنه في مقابل التنازلات الكثيرة التي قدمها بايدن لبوتين أن اميركا المتحررة من الالتزامات ومن الوجود العسكري في المنطقة هي أكثر قوة وأشد خطورة. إذ تصبح قادرة على استخدام “سلاح الابتزاز” الذي طالما استخدم ضدها، أي وضع الخصوم بين خيارين إما الموافقة على شروطها وإما الفوضى وهي اللعبة التي تتقنها جيداً. فالانسحاب من سوريا وتسليمها إلى روسيا، مثلا، بقدر ما يشكل نصراً مبيناً لبوتين فإنه يشكل بالقدر نفسه “كابوسا” مرعباً له، إذا قررت أميركا مواجهته، لأنه سيجد نفسه في مستنقع صراعات عرقية وطائفية وحروب لا تنتهي. فهل هناك من يشك في قدرة أميركا على إعادة إشعال الحرب الأهلية في سوريا. فيتحول نصر القيصر إلى هزيمة أقسى من هزيمة الاتحاد السوفياتي في افغانستان. وينطبق ذلك على لبنان والعراق، فهل هناك من يشك أيضاً في قدرة أميركا على استخدام حلفائها كوقود، لتحويل سيطرة ونفوذ إيران في لبنان والعراق إلى “كابوس” بسبب عجزهم عن الحكم وتوفير الاستقرار في ظل حروب الإفقار والانهيار، والتي يمكن تحويلها “بباخرة سلاح ومليار دولار” إلى حروب أهلية ودمار.
هل يستجيب بوتين؟
هناك أسباب عديدة تدفع بوتين للتجاوب مع المساعي الأميركية مع الإبقاء على درجة محسوبة من الصراع مع الغرب، أهمها ان روسيا تحتاج إلى تهدئة اللعب والتوتر مع أميركا لهضم المكاسب الضخمة التي حققتها خلال السنوات الماضية على مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية والعسكرية، من القرم إلى سوريا وإيران وليبيا. يضاف إلى ذلك تفاقم الأوضاع الاقتصادية في ظل العقوبات وشح الاستثمارات الأجنبية وتفضيل رجال الأعمال الروس الاستثمار في الخارج نتيجة عدم ثقتهم باقتصاد بلادهم، وتزايد المخاوف من خطر نشوب حرب باردة جديدة وسباق تسلح تستنزف الموارد. ويبدو أنه حان وقت تحقق “نبوءة” مستشار الأمن القومي الشهير زبيغنيو بريجنسكي، “بأن العلاقة مع روسيا ستشهد توترا كبيراً، قبل عودتها إلى الغرب الذي يُعتبر مكانها الأصلي”. باعتبار ان روسيا تخشى توسع النفوذ الصيني اكثر من خشيتها من النفوذ الأميركي على المدى الطويل.
ولا شك أن الرئيس الروسي، قرأً جيداً مغزى حرص بايدن على تحديد موعد اللقاء ليأتي مباشرة بعد ثلاثة إنجازات مهمة تصب في خدمة استراتيجيته بإحياء وتعزيز تحالف “الدول الديمقراطية”. وهي اجتماع الدول الصناعية السبع، اللقاء مع دول الاتحاد الاوروبي، اجتماع حلف “الناتو”وهو الأهم والذي اتخذ قرار تاريخي بتوسيع مهام “الناتو” إلى خارج المسرح الأوروبي ليشمل مواجهة الصين.
هل تكون “السذاجة المقلقة”، لإدارة بايدن هي بالحقيقة “مكر ودهاء” ويكون الانسحاب من مناطق النزاع والتضحية بالحلفاء فخاً محكماً، وتصبح “قوة أميركا في ضعفها” ؟! …
أنها مرحلة المخاض الكبير.. وفي لبنان المحكوم بمعادلة “لا غالب ولا مغلوب”، فالعاقل من يختار انتظار التسوية الكبرى معززاً مكرماً في وطن موحد ودولة بالحد الأدنى، بدلا من الانتظار على قارعة الطريق مشرداً أو مقتولاً.
Social Links: