محمد سعيد سلام – أورينت:
يجري النقاش بشكل مستمر على أرفع المستويات الفكرية، ويخوض المتحاورون بكل عمق ليقفوا على القضية الرئيسية ويحددوها، لتصاغ على أساسها السياسات وتحاكم المواقف .
وربما بات من المسلّم لدى قطاعات مختلفة كما تشير الكتابات والمحاضرات والرؤى والنظريات أن القضية الرئيسة هي قضية فلسطين المحتلة من قبل الصهاينة بدعم شرقي وغربي تقوده منذ حرب القرن العشرين الثانية الولايات المتحدة الأميركية، وأعتقد أن الكثرة الساحقة وربما الجميع – إلا ما ندر والنادر لا حكم له – من المنظومات الحاكمة والأحزاب والحركات والتيارات والمنظمات تستثمر في هذه المسلمة، وتبني على أساسها وجودها وتحركاتها وتحالفاتها نفاقا وخداعا، أو حقيقة وقناعة، أو كلاهما معا؛ لكن ذلك وعلى كل الأحوال ليس صحيحا، وإن هذه المسلمة حسب هؤلاء ليست مسلمة، بل يجب نقضها ثم تثبيتها على نحو مختلف عما هو متداول، وفي ذلك كل الانسجام والدقة دون أي تعارض أو تناقض .
لقد رأينا ما آلت إليه فتح وعباسها وسائر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وعاينا البعث يمينه ويساره، وشاهدنا الشيوعيين، ووقفنا على تجربة الناصريين والقوميين العرب، وأدركنا – بنسبة ما على الأقل – تموضعات المنظومات الحاكمة قاطبة، العربية وسواها، الجمهورية منها والملكية والجملوكية، وسيطرة مصر على غزة وممارساتها فيها، وسيطرة الأردن على الضفة الغربية وأفاعيله فيها قبل هزيمة 67، وعلمنا ماذا تعني قرارات المنظمة العتيدة الموسومة بمنظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، وتأكدنا من المال النفطي الوفير ودوره في دعم القضية ومآلاته!
أما أيلول الأردن الأسود فأحداثه ومآسيه مازالت حاضرة أمامنا، وكذلك ما أعقبه في جرش وعجلون .
ولقد تضاعفت المآسي والآلام والكوارث في لبنان – تل الزعتر من أفظعها – في منتصف سبعينيات القرن الماضي حينما تضافرت بعض الجهود المحلية مع الجهود الإقليمية بقيادة البعث السوري، وبمشاركة صهيونية وأوروبية مع رعاية ودعم أميركي .
ثم كامب ديفيد ثم أوسلو ثم أراجيف الحزب الطائفي وملالي طهران ثم محورَي المقاومة والاعتدال وآلاعيبهما ومسلسل الاغتيالات .
وحماس هي الدليل الأبرز بين كل أولئك السابقين على عدم صحة المسلمة، فبعد كل النضال والكفاح المقدر وجدت نفسها محشورة في حضن الملالي المتوحشين، فكم مرة ذكرت أن الدعم الذي تتلقاه من عصابة الملالي ليس مشروطا؟! وما هذه المقاومة التي تسند ظهرها إلى المجرمين وتنعت أبرز أكابر متوحشيها بشهيد القدس بحيوية مفعمة أبداها هنية بجوارح نابضة؛ لتبرر تمسكها وحرصها على القضية الرئيسة !
لم تستطع قيادة حماس أن تجيب على سؤال داخل مكتبهم السياسي، كيف حشرتهم السياسة الأميركية داخل عباءة الدعم الإيراني، ومنعت عنهم سائر الدعم النظامي؟! في الوقت الذي يستجدي فيه داعمهم الدعم من الأميركي الذي يرفع عنهم العقوبات ويمنحهم متى شاء، ويوقعهم تحت أسر العقوبات متى شاء، بما يتناسب مع الدور الوظيفي الذي رسمه لهم .
وهم ككل من سبقهم لن يستطيعوا أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال السياسي، ولا أن يجيبوا عليه وعلى أمثاله، لأنهم لم يحددوا القضية الرئيسة التي تفتقدها المنطقة بأسرها .
ليس المقصود هنا إجراء محاكمة تاريخية لأحد أو جهة، وتحديد المخطئ والمصيب والصحيح والأصح والوطني واللاوطني، بل تحديد مفصل جوهري للغاية ترسم على أساسه خارطة طريق تترك أثرا كبيرا على المنطقة كلها، ونوفر بذلك وقتا وجهدا، ونحفظ دماء زكية وأعراضا طاهرة وثروات هائلة، ونمنع العذاب والقهر والذل الذي نُذاقه بمنهجية ومعرفة وخبرة من أعداء الإنسانية والحرية .
وليس المراد هاهنا – أيضا – نفي المؤامرة الخارجية أو إثباتها، واستعراض الخطط وطرائقها، إنما تأكيد المسؤولية المعرفية الدقيقة التي تصوغ الذات المجتمعية السياسية لعموم المنطقة وتوجهها .
ومما يسترعي الانتباه أن غالبية مجتمعات المنطقة رحبت وقبلت ودعمت كل من رفع لواء القضية الفلسطينية، دون أن تفرض عليه استحقاقات أولية ضرورية، أو أن تتأكد من وجودها، ورحلت كل هذه الاستحقاقات الضرورية وقفزت عليها، راغبة أو راهبة، علما أنها تمس كنه حياتها ووجودها الروحي والثقافي، فضلا عن الحياتي المعاشي لأنها لم تتمحور حول القضية الرئيسة الحقيقية .
وعندما نعدّ القضية الأساسية هي القضية الفلسطينية لأن فلسطين تخضع للاحتلال الصهيوني الذي يجب طرده، فإننا نعدّ أن أجزاءنا العربية الأخرى محررة حكما، ولا نعرف من هو المحتل المشغل والداعم للاحتلال الوظيفي، إذ لا يختلف باقي سكان المنطقة عن الفلسطينيين من حيث القضايا المصيرية الأساسية إلا في هوامش حياتية لا تتعدى الحفاظ على النوع والمتع والترفيه، وبعض أنواع الخير التي لن تحدث فرقا جوهريا على المستوى العام، وإن الفلسطينيين وخاصة في ال 48 أفضل حالا في هوامش مصيرية في مواجهة الاحتلال في فترات معينة .
وقد سبق هذا التمحور بهذا القدر والمستوى حول القضية الفلسطينية، تفاعل مماثل مع قضية الوحدة العربية بعد التحرر الشكلي من الاحتلال العسكري الأوروبي المباشر .
وإني إذ أعتقد أن هذه القضايا وغيرها قضايا رئيسة – لا أشك في ذلك ولا أرتاب – لكن إحداها بحكم واقعنا ليست القضية الرئيسة الأولى التي يجب أن تحركنا، وتضبط سلوكنا السياسي والفكري والاجتماعي؛ لأنها تفترض أننا أصحاب قرار من شأننا أن نقرر في سياساتنا قضايانا الرئيسة مرتبة بحسب الأهمية فنعلم الأولى من الثانية، ونميز الوسائل عن الغايات، وتتوضح الأهداف التكتيكية والاستراتيجية، وتبين الواقعية عن الانهزامية والتبعية.
ولأنها قبلت كذلك وسلمت للانقلابات العسكرية والتصفيات الجهوية طيلة ستة عقود – والتي آلت إلى دكتاتوريات – على أنها ثورات حقيقية .
ولأنها تعاملت على نحو شعبي أوسع مع الجيش والمخابرات على أنهما مؤسسات دولة، ترعى أمن الوطن والمواطن وتسهر على حمايتهم وتحفظ مصالحهم، والحال أنها عصابات ومستعدة لارتكاب كل الموبقات التي لم ترها أعين ولم تخطر على بال في سبيل حفنة من البشر الذين لا يشبهون البشر إلا في أشكالهم .
ولقد استطاع الربيع العربي عموما والثورة السورية خصوصا أن تثبت الغياب التام للقضية الرئيسة بشقيها المتعادلين، السيادة والقيادة، كما استطاعت – الثورة السورية – أن تؤكد أن أحد هذين الشقين المتعادلين لا يصلح دون الآخر .
فإقرار السيادة دون قيادة كالماء بلا إناء ولا احتواء، سيختلط بما تحمله الأرض، فيصدق عليه كل وصف سوى أنه ماء؛ وفرز قيادة لا تعرف السيادة، أو لا تقتنع بها ولا تفهمها، أو تتلاعب فيها ولا تستوعبها، أو تدعيها فتحملها شعارات دون سلوكيات، هي إناء فارغ وجعجعة بلا طحين .
وفي اللحظة التاريخية التي قطع فيها الشعب مع ما مضى من أوهام واختلاطات وتناقضات، وخطا خطوته الحقيقية الأولى في تثبيت إرادته نحو استكمال سيادته والدفاع عن وجودها والبذل من أجلها؛ هبّ المجتمع الدولي وانتفض بكل طاقته الذاتية، وأعاد الاحتلال المباشر، واستعمل الصهيوني والملالي معا، والمستبد بآلته العسكرية والأمنية كلتيهما، والإقليمي الوظيفي بما فيه الروسي والأوروبي، والراديكالية وجزءا من المعارضة، فتكاملوا الأدوار بإشرافه ومراقبته، وكانوا سهما واحدا مقابل الربيع العربي فتعثروا جميعا في سوريا بمستوى كبير، وعلى نحو أقل في اليمن وليبيا .
وما لم يستطعه أصحاب الربيع العربي هو تقوية خط السيادة وصناعة القيادة، ولا أعتبر ذلك سهلا، وفي الوقت عينه ليس مستحيلا. والذي يجري على الساحة سلوكيا هو أحدهما، فأتباع الواقعية الانهزامية يعدّونه مستحيلا ويقدمون الخدمات لهذا الإقليمي أو ذاك، ولم يرجح الدولي أحدهم بعد، وبالمقابل يقوم المتحمسون والحزبان التقليديان وبقايا الناصرية والقوميين ونثريات البعث اليميني واليساري وبعض مراكز الدراسات بمحاولات تشتيتية، لا تستند إلى أرض صلبة، ولا إلى بنية متماسكة، وتبدد الجهد وتهدر الوقت عن حسن نية بأمثل حالاتها، ولا تستفيد من تجربة عشر سنوات ضاعت خلالها فرص هائلة. وما اطلعت عليه من أوراق هؤلاء – خمسة مسميات جديدة – لا يقف على القضية الرئيسة لأنه يستسهلها، ويخلط خلطا كبيرا عن غير دراية في السيادة ومعانيها وطرائقها؛ وتتنازعه أوهام القيادة، ولا يعرف كيف يكون بديلا للهياكل المصنعة .
والمراهنة على مجموعة ثورية سياسية، ليست جزءا من كل هؤلاء، تؤمن بدورها، وتدرك صعوبته وتعلنه بكل تواضع، وترسم مسافة الأمان بينها وبين المعارضة التقليدية، وتعلم الكثير عمن حولها وحيثياتهم، وتحافظ على أدوار الآخرين ضمن سقوفهم التي يستطيعونها لا التي يتوهمونها، وتمنع عن آخرين أدوارهم الخادمة للإقليمي الوظيفي أو الدولي؛ لتحقق وتستكمل السيادة التي بذرها الربيع العربي بقوة ضخمة وعظيمة، وتكون هي نفسها نواة القيادة وضمانتها على أساس هذه السيادة .
Social Links: