جنان الحسين – ضفة ثالثة:
حين أفكر في الطبيعة، وما يقبع خلفها ،من أنهار وسفوح شاسعة، وسهوب ومرتفعات، وأزاهير خلابة، يتوشح روحي فرح ،يذكّرني أنني ترعرعت هناك. هناك لعبت دون قلق مع الطيور، وأجنحة الفراشات، وهناك اختبأت ، وراء القباب، وهناك اتسخت ثيابي، حين تمرغت على العشب ،كقطة جارتنا أم علي . جارتنا الأشد لطفا وطيبة ،من جميع جاراتنا، خسرت ساقها النحيلة بشظية طائشة، بعدما عاد زوجها من بحر إيجة دون حقيبة، فصارت، تمسّد لُوَز أطفال في المهد بإصبعها، بعد أن تبلله بريقها ، كي تكسب لقمة عيشها . لكن الشيء المفجع أنها مصابة بوباء كبدي! فظلت تذكّرني بالجهل الذي يطاردنا من مكان لآخر، وينتظر من يستر عورته. كنت فتاة قوية، ومتعنتة في كل حالاتي، هكذا يصفني الجيران ! أحب الأشياء مفتوحة على مصاريعها، ولا أمّل البحث عن نسغ جديد لحياة يسكنها الضوء، وأنفاس معرفة، تعطّر شموسها البهيّة. أفتعل أفكاراً لا نهاية لها لأصيب هدفي بدقة، ولا أعرف طريقا للندم ، فكان الكل يشك بوداعتي كطفلة ، رغم أنني متخمة بحب البراءة التي تغفو داخلي. كم كنت أنجح في تودّدي لأمي كي أرافقها إلى المرعى ، وخاصة حين تدب الحياة في الطبيعة، مع حلول الربيع ، وتسري البهجة في نفوس النسوة، لقيامهن بنزهة إلى المراعي من أجل حَلْب الأغنام . وقبل أن أستأنف تودّدي تقول لي : تفقدي أخيك والحقي بنا، لكن ما يعكر صفوي عناد النسوة الذي يلاحقني ، وكان غالباً ما يفسد فرحي، لعدم رغبتهن في اصطحابي ، وهن يتبادلن النظرات الماكرة ، ويهززن رؤوسهن زاعقات بأمي :دعيها تغسل الصحون على الأقل ، أو ترعى أخيها الصغير. كم كنت أوبّخ على عدم التزامي بأوامرهن الصارمة لأتفه الأسباب، ،كنت أتعقب أصوات خطواتهن إلى المرعى، يرافقني كلبي الوفي ، وحشود نمل تعرف وجهتها في الضوء والعتم، وبقع زيت تلتمع على فستاني ،وقدمين حافيتين ، محفورتين بالثقوب . كنت أدلف إليهن خلسة، من بين كروم العنب ،متأبطة أحاديثهن، حول فرص الزواج ، وإعداد الحفلات وحلبات الرقص والدبكة، وأسرارهن المخيفة عن عائشة برقدتها الأخيرة في مقبرة القرية الباردة والواقعة على كتف الوادي والتي كانت تفزعني حكاية موتها، دون أن تحظى بأثر قبلة من أهلها ،على الجبين ، بعد أن دسوا لها السم في الطعام، فماتت وهي بتول . و هدى التي انتحرت بضغطة على الزناد، فقالوا: سقطت سهواً ، وظل منها الأثر الناعم في مسامات الحقيقة . ثم بنت جيراننا ميساء التي ماتت مخنوقة بشعرها الأسود في ليلة مقمرة وبقي ظلها يطفو على سطح ذاكرتي. كنت أمشي بين المروج ، وعلى أطراف الجبال ،لأوقات طويلة من اليوم خلف أمي، بطمأنينة الأزهار، ودفء العصافير ، ولون الحلم. تارة أعانق الشمس، وأغازل طنين النحل، وتارة أصافح ماء الغدران بالإشارة، وبيوض الحجل ،دون أن أمد ذراعي. مرت ساعات وأنا ألحق بالنسوة دون ملل، ودون أن ألفت أنظارهن إليّ. وصلت إليهن رغم أنف المسافة ، شهقت أمي بتعجب، ضحكت لها بدلع طفولي خجول ، إنها رقيقة ولطيفة، ومن النادر أن تفسد فرحي. اتجهت مع النسوة إلى الشياه وكأنها تقبل ابتسامتي ، بعد أن طلبت مني، أن أجلس إلى جانب الراعي، على بعد أمتار منها ، ريثما تنهي حلب الأغنام. كان “أبو شامخ” آخر الرعاة في القرية، رجل أُلبس من الجمال حلة الكمال، كانت حياته مكرسة للشياه منذ طفولته، وتبدو كما لا راعي لها، حيث يمنحها حرية المشي والأكل والراحة طوال اليوم . “أبو شامخ “ليس راعيا فحسب، فهو العارف لأغلب أنواع الزهور وطرق استخداماتها كعلاج لجل الأمراض، حيث يقضي وقته بانسجام تام مع الطبيعة. أمتهن الرعي استجابة لرغبة والده، وهو الوحيد الذي ورثها في سن صغيرة من بين أخوته السبع. أجبره والده على ترك تعليمه الذي كان يتلقاه في مدرسة القرية المجاورة ليحترف مهنة الرعي، والتي تبعد أكثر من خمسة كيلو مترات عن قريته. كان يقطع تلك المسافة كل يوم سيرا على الأقدام بين الحقول والوديان الوعرة، ليتلقى تعليمه الابتدائي. أمي التي تكبرني بأحد عشر عاما، وجميع من معها من النسوة، تعلمن شبّك الغنم ،وحلبها، في سن مبكرة ، حيث تحتضن كل نعجة رأس بنت جلدتها في عملية الشّبك، ليصبحن صفا واحداً بشكل ثنائي، بعد أن تقوم كل امرأة بعزل شياتها من خلال العلامات الموضوعة على آذانها، أو لون الصباغ على أجنابها. كانت أصابع الحلّابات تدلل أثداء الأمهات من النعاج أثناء عملية الحلب ، وكن كلما زدنا بدلالهن علا ثغاءهن وهاج بهن الحنين لصغارهن. صوت ناي “أبو شامخ” يُسمع من بعيد وهو يحضر شايه الخمير على الحطب بإبريق يوحي أنه رافقه طويلاً ، ويستقطع شيئاً من الوقت لتناول خبزه المغمس بالهواء .حوله تتجمع الأغنام بعد أن تعطي أصحابها ما تشاء من الحليب، إلى جانبه مرياع ،هو سيد القطيع وقائده، يُعزل عن أمه، يوم ولادته ، ويوضع مع أنثى الحمار، ليرضع منها، وكأنها أمه . بعد أن يكبر لا يُجزّ صوفه ولا يُشذّب ، ثم يُخصى كبقية المراييع . تعلق حول رقبته أجراس تصدر أصواتاً قوية ،تتسارع عند رنينها الأغنام للحاق به، يسير أمامه حمار، يحمل على ظهره خرج الراعي، وكلب أليف، يرافق القطيع لحمايته، ويعتمد عليه الراعي ، في جمع الأغنام ، بعد أن يتم تدريبه بشكل جيد. تسليّت بالحديث مع “أبو شامخ” لحين انتهاء النسوة من حلب الشياه ، وأنا أنظر إليه بطرف عيني. فجأة مد لي يده بكأس من الشاي ، لأشعر بالأمان ، ومسح على وجهي بحنان، بعد أن أشعل لنفسه لفافة تبغ ثم قال: مازالت خطاك في أول الطريق فكوني كما تشتهين! ومضى يهش الغنم بهراوته. تنفست الصعداء ، ومشيت مزهوّة إلى أمي ، في أن أصير قبلة ، أمنح العالم أسرار الحب، أو أن أكون بيدر قمح أوزع الخبز بالتساوي على المساكين .منذ عشر سنوات وأنا في هذه الجهة المعتمة من العالم ، أحاول أن أستحضر جمال الطبيعة ووجه أبي شامخ ، وكلما حاولت تهرس ذاكرتي ما سلبته الحرب مني ، وتصفع ما تبقى لي من حنين.
Social Links: