مرح البقاعي – العرب اللندنية:
مصطلح “الدخان الأبيض” بدلالاته السياسية يعود إلى تقليد اعتمده المجمّع الباباوي في الفاتيكان حين تطلق مدخنة كنيسة سيستينا الأكبر في المقر الرسمي للبابا دخانها، في رمزية خاصة بالكنيسة، ولتعلن من خلالها عن انتخاب بابا جديد يخلف من رحل. وقد تم اعتماد هذا المصطلح في الأدبيات السياسية للإشارة إلى صدور قرار منتظر أو الإعلان عن حدث جلل.
أما الدخان الأسود الذي تصاعد في سماء العاصمة الأفغانية كابول عشية رحيل القوات الأميركية عن قاعدة باغرام الجوية وتسليمها إلى القوات المحلية الحكومية مع احتفاظ الجيش الأميركي بسلطته لحماية القوات الأفغانية، فله شأن آخر.
قاعدة باغرام هي آخر معاقل الولايات المتحدة في أفغانستان والقاعدة الجوية الأضخم التي بناها الاتحاد السوفييتي في الثمانينات، واستخدمها الأميركيون على مدى عقدين من الزمن مركزًا للقيادة والعمليات الجوية، وفيها سجون خصصت لمن يتم القبض عليهم من مسلحي طالبان والجماعات الجهادية المقاتلة.
الدخان الأسود ذاك شكّل عمودًا متعاظمًا ارتفع في سماء كابول لساعات عديدة وكان نتيجة لقيام القوات الأميركية بإحراق كل مخلفاتها العسكرية ومعداتها في قاعدة باغرام قبل أن تغادرها بشكل نهائي، بينما يُستكمل الانسحاب الكلي مع نهاية شهر أغسطس القادم. وأعلن البنتاغون أن قيادة المهمة الأميركية في أفغانستان ستنتقل من الجنرال سكوت ماكينزي إلى العميد كورتيس بازارد، والأخير سيقود مكتب التعاون الأمني الدفاعي المشترك مع القوات الحكومية الأفغانية من العاصمة القطرية الدوحة.
أما حركة طالبان التي تقع في الشق الآخر من المعادلة الحربية والسياسية، فماضية في تعزيز سيطرتها وإحكام القبضة على المزيد من المقاطعات شمالاً وجنوبًا، وهنا يكمن عمق المشكلة. فالمتحدث الرسمي باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد، أعرب في تصريح إعلامي عن أن “انسحاب القوات الأميركية وقوات الحلف الأطلسي سيمهّد الطريق أمام الشعب الأفغاني ليقرر مستقبله بنفسه”، لكن السؤال الملح هنا من سيكون صاحب الصوت الأعلى وصاحب اليد الطولى في أفغانستان الذي سيملأ فراغ الانسحاب الأميركي والدولي من كابول، هل هي القوات النظامية الأفغانية التي دربتها واشنطن أم مجاهدو حركة طالبان في تقدّمهم باتجاه المدن الكبرى بما فيها العاصمة؟ ومن سيرسم شكل المستقبل لأبناء أفغانستان وبناتها بعد أن تغادرها القوات الأجنبية، هل الجهات الأفغانية التنويرية والمنفتحة الأقرب إلى الفكر الغربي أم هم المتشددون الجهاديون؟
الصقور الأميركيون في إدارة جو بايدن غير متفائلين البتة، ويحذرون من احتمال حقيقي لعودة تنظيميْ القاعدة وداعش إلى الظهور في المناطق التي تسيطر عليها طالبان، بينما موسكو تبدو قلقة من حشود يزجها تنظيم داعش في الشمال الأفغاني على حدود دول هي حليفة تاريخية لروسيا.
الدخان الأسود الذي تصاعد في كابول لا ينذر بالخير إن لم نقل أنه نذير شؤم! وقدرة قوات الجيش الأفغاني الذي تسلم قاعدة باغرام بعد مغادرة الأميركيين وقوات التحالف ستكون موضع اهتمام ومتابعة لأنها ستحدد خلال الأشهر المقبلة من هي الجهة التي ستبسط سلطتها على كامل البلاد المنقسمة عمليًّا بين الحكومة المركزية والحركات الجهادية وعلى رأسها حركة طالبان.
القلق كان واضحًا في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بايدن في البيت الأبيض ليجيب على تساؤلات الإعلام حول الانسحاب الأميركي ومستقبل البلاد في ظل الفوضى الأمنية التي رافقت الانسحاب، والتي أدت إلى تعرّض القاعدة لنهب من مجموعات من اللصوص بعد أن غادر الأميركيون تاركين أبواب القاعدة بلا أجهزة أمان.
لم يكن بايدن مرتاحًا لإلحاح الصحافيين في السؤال عن إمكانية اندلاع حرب أهلية بعد المغادرة الأميركية، بل بدا عصبيًّا وغير مقنع لمن حضر المؤتمر عندما طلب من أحد الصحافيين “تأجيل هذا السؤال إلى ما بعد عطلة نهاية الأسبوع لأنه يريد أن يستمتع بوقته خلالها”، وهذا أمر غريب عن طباع بايدن ومراسه في التعامل مع ممثلي السلطة الرابعة من الإعلاميين، وهو الذي طالما انتقد سلفه دونالد ترامب على تجاهله أسئلتهم والتعامل معهم بنزعة فوقية.
وبينما حذّر مسؤولون كبار في دوائر المخابرات الأميركية وقادة عسكريون في البنتاغون وأعضاء في الكونغرس من الحزبين من أن الحكومة الأفغانية لن تكون قادرة
على مواجهة طالبان بمفردها بعد مغادرة القوات الأميركية، يتأخر إعلان واشنطن عن خططها البديلة لحماية المطار المدني في كابول، وتأمين خروج آمن للمترجمين والعمال والموظفين من المدنيين المتعاقدين الذين عملوا مع القوات الأميركية لتسهيل مهماتها في أفغانستان على مدى عشرين عامًا، والذين سيكونون هدفًا لانتقام طالبان التي تتحرك وتنتشر بصورة مقلقة.
خروج الجيش الأميركي من أفغانستان دونما تنسيق جلي لما سيكون عليه اليوم التالي في هذا البلد الممزق بالحروب المتنقلة والانقسام المجتمعي والتطرف الديني استحضر الذكرى المشؤومة لإجلاء الموظفين الأميركيين من سايغون في العام 1975، حيث تتقارب المناخات التي أدت إلى اتخاذ قرارات مشابهة حين تيقّن الرئيس بايدن من أن القوات الأميركية لن تتمكن من فعل الكثير إن استمرت في أفغانستان مع تقدّم طالبان من جهة، وعجز واضح لدى الحكومة المركزية في إدارة الأمور على المدى الطويل من جهة أخرى.
ويشير تقرير تصدره جامعة براون الأميركية ويعكف على تحليل وإحصاء كلفة حروب الولايات المتحدة الخارجية خلال القرن الفائت إلى أن حربها في أفغانستان كلفت ما يقارب 2.26 تريليون دولار. فهل رضيت واشنطن بنصيبها من هذه الحرب وقررت أن تتغاضى عن خسائرها المادية تلك مقابل أن تحفظ حياة مواطنيها من جحيم المفترق السياسي والأمني في أفغانستان؟ نتساءل.
Social Links: