إخراجان مسرحي وبصري يطرحان أسئلة الخيبة في لعبة تمثيلية مفتوحة
منى مرعي – اندبندنت عربية:
في إطار مهرجان “شباك” البريطاني، يقدم “كوليكتيف مقلوبة” عرض “موت دانتون”، وهو عرض مسرحي متاح افتراضياً حتى السابع عشر من شهر يوليو (تموز). يعود الكاتب المسرحي مضر الحجي إلى نص جورج بوشنر، ليقدم للمشاهدين نصاً حول مسرحة “موت دانتون”، حسب رؤية فريق مسرحي سوري يختبر بشكل موازٍ فعل الانخراط في ألمانيا وعملية قراءة ومحاولة تجسيد النص على الخشبة بعد الثورة السورية. الثورة هنا هي الكلمة المفتاحية للعرض، ليس لأنها موضوعة نص بوشنر الأساسي بل لكونها مكمناً عبثياً يزداد كثافةً مع مُعطى الثورة السورية.
عندما كتب بوشنر نصه الأول عام 1837 كان منشغلاً بفهم الثورة الفرنسية، إذ ركز على ما يعرف بمرحلة الرعب الثوري التي بلغت قمتها عام ١٧٩٤ بإعدام ماكسميليان روبسبيير لزملائه ومنهم دانتون. يظهر بوشنر عملية الانشقاق بين دانتون الذي نبذ العنف والقتل ولو كان مبرراً بنجاح الثورة، وروبسبيير الذي وجد أن السبيل للوصول إلى الجمهورية هو عبر ربط الفضيلة بالرعب وعبر ترهيب كل من يراهم أعداء الثورة.
موت دانتون كطرف صناعي
استعان الحجي بنص بوشنر ليطرح تساؤلات راهنة في ظل ضبابية مشهد عاجزٍ عن الإشارة إلى الأشياء بوضوحها اللازم. هي مسرحية الأسئلة التي تغيب عنها أي إجابات. في هذا السياق، تتحول شخصيتا دانتون وروبسبيير إلى أطراف صناعية تعقد يوميات كل من رضا (محمد آل رشي)، وستيف (محمد ديبو)، وإياس (كنان حميدان) ورهف (أمل عمران) الذين يواظبون على حياتهم اليومية كمسرحيين لاجئين في بلاد المنفى، فتأتي مسرحية بوشنر لتتجاور الأسئلة الفلسفية الكبرى مع يوميات الأسئلة الصغرى في البروفات التحضيرية لتقديم presentation لممولي العرض. وهنا لا يختبر المشاهد فقط المسرح داخل المسرح كنوع بيرانديللي، بل يعود به الحجي إلى المنظومة الإنتاجية للمسرح داخل منظومة سياسية ضمن إطار المسرح داخل المسرح. وهذه نقطة أساسية طرحها الحجي في عمله الراهن. في هذا السياق، يتماهى الارتهان بالمموّل مع ارتهان الفضيلة بالرعب الثوري، ويتحوّل المخرج إياس، صاحب النيات الحسنة، إلى روبسبيير مينمالي آخر على الخشبة.
على الرغم من أن إياس قد سعى إلى تكوين فرقة يتشارك الجميع فيها عملية اتخاذ القرارات، فإن مرحلة البحث عن مموّل والأيام العشرة السابقة لتاريخ لقاء الأخير لا تسمح بهذا النوع من الديمقراطية: إياس إذاً هو الوحيد الذي يوزع الأدوار من دون اعتراض، الدراماتورج غائب وإن كان حاضراً عبر شخصية رهف، وذلك لأن المخرج استأثر بدوره. رغم ذلك، يبدو إياس متفانِياً إلى أقصى الحدود ومهجوساً بتحقيق هدفه -العرض ولا شيء إلاه- وحتى من الممكن القول إنه بغاية اللطف مع ممثليه. استقامته مثالية، يحمل على كتفه همَّ العمل المسرحي وحده كأنه هو الوحيد الضليع باستنباط الحلول بهدف حصول العرض على التمويل.
على سوية هذا الأمر، يتكثف نص بوشنر في سياق العرض ولكن كامتداد ليوميات الممثلين، لمشكلة رضا الذي يحاول التعاطي مع إلحاح زوجته وداد وقريبها أن يوافق على التمثيل في إنتاج تلفزيوني يضم فريق عمل بأكمله موالياً للنظام السوري. أثر هذا الأمر في تقمص رضا شخصية روبسبيير، إذ يجد أن هنالك حاجزاً رافضاً هذه الشخصية. نص بوشنر يستجيب لمواقف الممثلين الصعبة، إذ في تلك اللحظات فقط تذوب الحدود الفاصلة بين الشخصية ومؤديها، وتأتي كلمات دانتون أو روبسبيير سنداً (أو نقيضاً) لما يعيشه الممثل. على سبيل المثال عندما اشتبك إياس مع ستيف بعد أخذه سيجارة حشيش في البريك، وحين يطرد ستيف مقرراً أنه هو من سيلعب دور دانتون، يجيب الأخير على إياس بجملة من جمل دانتون، صارخاً “أنت تحلم، لن تكون لديهم الشجاعة لمواجهتي، إن الثورة لم تنتهِ بعد وقد يحتاجون إليَّ، إنهم سيحتفظون بي في ترسانتهم”.
الارتباك أمام مآلات الثورة
اختار الحجي المقاطع المحورية في نص بوشنر، حين تتجلّى ارتباطات الثورة بموضوعات العنف والرعب وكونها مبرّراً يتيح قتل الأبرياء. وهنا يطرح سؤالاً حول معنى الفضيلة والرذيلة من منظور ثوري، تسأل رهف سؤالاً غايةً في بساطته (وتعقيده في آن) “ما الرابط بين الثورة السورية والثورة الفرنسية؟”. هذا السؤال يحيل العرض إلى سلسلة متتالية من الارتباكات.
لعبة المسرح والكامير في مسرحية “موت دانتون” (الخدمة الإعلامية)
في مشهد اليوم الخامس، حين يتمرّن إياس على الـpresentation، يقدّم المخرج دوافع اختياره مسرحية موت دانتون، وأظن أن أجوبة الأخير هي أيضاً أجوبة كاتب النص مضر الحجي حول العودة إلى مسرحية موت دانتون “كأني عم أستعين بموت دانتون لحتى لاقي الأجوبة على الأسئلة المستعصية اللي طرحتا الثورة السورية…. شو يعني ثورة.. شو يعني ثورة انتصرت وشو يعني ثورة انهزمت؟…”. هذا السؤال حول معنى انتصار الثورات أو انكساراتها يضع سنوات الثورة السورية تحت مهجر المساءلة المصحوبة بهامش كبير من الضياع وعبثية إيجاد أي إجابات ناجعة. في مشهد سابق، بعد اعتراض رضا على توزيع الأدوار وطلبه تجريب القيام بدور دانتون وسط اعتراض آخر لستيف، تقترح رهف تمريناً ارتجالياً على الممثلَين لحل مسألة توزيع الأدوار: ماذا لو نجحت الثورة؟ ماذا سيكون خطاب روبسبيير للجماهير وما السياسات الجديدة التي سيقترحها؟ كانت نتيجة هذا التمرين أن فكرة نجاح الثورة -حتى كفعل ارتجالي على الخشبة- تبدو في قمة الإرباك: ينتهي رضا بصوته المتردد، على عكس أدائه روبسبيير المعهود، بالسخرية هذه المرة من نفسه ومن الشعب. بينما يكتفي ستيف بتكرار كلمة “أيها الشعب العظيم” دون جدوى ولا يجد مهرباً لمأزق الخطاب إلا عبر لعب موسيقاه.
المقصلة: ازدراء المسرح
يلاحق سؤال الرابط بين الثورة السورية والثورة الفرنسية إياس حتى نهاية العرض. إثر قيام الممثلين بجلسة “تحشيش” حولت ساعة التمرين إلى احتفالية عبثية يكرّر فيها الممثلون بعض جمل شخصياتهم وهم يرقصون ويرمون أوراق نص العرض في الهواء. ينفعل إياس أمام ممثليه مشترطاً عليهم إما أن يسلموا أنفسهم له كلياً، وإما سيقوم بتحويل المسرحية بأكملها إلى مونودراما. في تلك اللحظة، تتشظى سلطوية المخرج ويصل إياس الذي يلمّ أوراق نصه الممزقة على الأرض إلى حد الانهيار ممثلاً مونولوغ دانتون الأخير في لحظة انهيار مشروعه. في هذا المشهد يطالع إياس -صوت يقوم بمحاكمة المخرج بتهمة ازدراء المسرح. يتضح أن هذا الصوت الذي سمّى نفسه “أنا بحبك وبخاف عليك (هذا اسمي)” ليس إلا صوت المقصلة التي تقوم بعملية استجوابٍ سادية تعيد طرح سؤال لماذا مسرحية دانتون اليوم وهل إياس سعيد في حياته؟ لماذا لم يمثل؟ لماذا لا يعود إلى سوريا؟….
لماذا موت دانتون ومن يحاكم من؟
أمام هذه التركيبة المعقدة، تتوارى الثورة كفكرة تنبثق من نص بوشنر خلف مسرحتها. وتبقى في الصفوف الأمامية للمشهد يوميات الممثلين المضنية ومحاولة القيام بعمل مسرحي في ظل اندماجهم في برلين. لحظات البحث في اللغة الألمانية وسطوة سؤال إن كانت “Guillotine” ترفق بـdie أو بـ dasعلى سؤال تشارك عملية اتخاذ القرارات، يبدو معبراً في هذا السياق: الانشغال بتعلّم لغة جديدة، عملية البحث عن عمل أو مموّل تطغى على كل شيء. وهنا يبدو أن هنالك صيغة جاهزة للمسرح السوري وجب الامتثال لها. في لحظة من لحظات العرض، يترك إياس الخشبة ويجلس على مقعد من مقاعد الجمهور ليتلقى اتصالاً هاتفياً من كارينا الصحافية التي تطرح سؤالها الأول: هل أتى إياس عبر القارب إلى ألمانيا؟ يجيب إياس بالنفي ويعتذر أكثر من مرة وهو يبتسم. بالنسبة إليَّ هذه اللحظة هي اللحظة الأكثر عبثيةً في العرض: أن يعتذر المرء لأنه لم يأتِ بقوارب الموت ولأنه أتى كأي إنسان آخر يتمتع بحقوق عبر الطائرة. هذا الاتصال الهاتفي الذي لم يتح لإياس التعبير عن أي فكرة من أفكاره -لأن الصحافية تبحث عن قصة لجوء، أو عن لاجئين سيحضرون العرض بينما إياس ليس أكيداً إن كان المسرح متاحاً أساساً لللاجئين في ألمانيا- يتبدى كعملية بتر لفكرة الاندماج التي سألت عنها الصحافية. وهنا المحاكمة بحد ذاتها: محاكمة منظومة كاملة… ولربما هذا ما لم يبح به بشكل واضح إياس (أو مضر). لماذا موت دانتون ولماذا المشهد الأخير الذي انتقاه الحجي خاتمةً لعرضه، حين تصرخ لوسيل شريكة أحد الرجال الذين أعدموا مع دانتون: يعيش الملك. ينتهي بإياس وهو يسأل: “ليش”؟
لا تحمل الكلمة الأخيرة للعرض سؤالاً واحداً، بل هي مفتوحة على رزمة من الأسئلة السياسية والفنية والاجتماعية وليس هنالك من خلاصات أو مخارج تشعر المشاهد بالطمأنينة… هكذا يحاول الحجي أن يرسي توازن الرعب في صندوق ماترويشكا المسرحي. ولعبة المسرح داخل المسرح، الديكتاتور الذي يخفي خلفه ديكتاتوريات صغيرة، والصوت المرعب داخل صوت إحدى شخصياته، كلها تيمات لها مراجعها في أعمال سابقة لمضر الحجي، تحديداً نصي “حبك نار” و”شفق قطبي” الذي تمتع ببنية مشابهة (أي المسرح داخل المسرح وسلطوية المخرج والصوت الكاره للذات الذي يدفع الشخصية إلى لحظة قريبة للانتحار).
رباعية الممثلين الرهيبة والإخراج الملتبس
“عودة دانتون” يعدّ من العروض المسرحية التي لا يطغى فيها حضور ممثل على آخر، والتي يؤدي فيها كل ممثل دوره بدقة وعفوية وإتقان واتزان دون زيادة أو نقصان. الثنائي محمد آل رشي ومحمد ديبو وفّرا من خلال دوريهما مساحة من الفكاهة والسخرية السوداويين، بينما مشى كل من كنان حميدان وأمل عمران في خط نقيض من الجدية في ظل أداء واقعي يضع المشاهد أمام ميزان من المواقف المركبّة. كنان حميدان الذي لعب دور يوسف في مسرحية زجاج لأسامة غنم هو أصغر ممثلي العرض بين جيل سابق مخضرم معروف باحترافيته وبصنعته التمثيلية الملفتة. من شاهد العرضين اللذين شارك فيهما كنان سيعرف حجم التباين بين الشخصيتين اللتين لعبهما الأخير وسيدرك أننا أمام ممثل يعد بالكثير. من الممكن القول إن هنالك إخراجين للعرض، الإخراج المسرحي لعمر العريان وإخراج الفيديو الخاص بالعرض الافتراضي. كان من الممكن للإخراج الافتراضي أن يظهر المسرحة والمسرح كفضاء يبيّن خيارات المخرج بدل أن تتحول بعض المشاهد إلى مشاهد سينمائية تذكر في قرب الكاميرا من ممثليها بروحية حركة الدوغما السينمائية. حتى لارس فونترايير حين أخرج “دوغفيل” و”ماندرلاي” حوّل سينماه إلى مسرح!
Social Links: