لوري كينغ – المدن :
بعد أقل من ستة أشهر على أدائه اليمين الدستورية بصفته الرئيس ال46 للولايات المتحدة، لم يكن ممكناً أن يبدو برنامج السياسة الداخلية لجو بايدن أكثر وضوحاً، على الرغم من أن هناك صعوبات تحول دون إتمامه، نظراً لمحاولات الجمهوريين “الصبيانية” لعرقلته ومواصلة استخدام ورقة التعطيل في مجلس الشيوخ.
من السهل تحليل ما يحاول بايدن فعله على صعيد الداخل الأميركي، فبعكس سلفه دونالد ترامب الذي تسبّب بخللٍ كبير في السياسة الداخلية الأميركية، نجح بايدن في وقف انتشار جائحة كورونا، تخفيف الأعباء المالية عن الطبقة العاملة والمتوسطة وإعادة كرامة وثقة السلطة التنفيذية للحكومة الأميركية.
قد يقول البعض أن بايدن يطمح لأن يكون نسخة القرن الحادي والعشرين للرئيس الأسبق فرانكلين ديلانو روزفلت، الذي لطالما كان يؤمن، كما الرئيس الحالي، بأهمية القطاع العام وشراكته المتوازية/ والمتقدمة على القطاع الخاص. بايدن، مثل روزفلت، أثبت قدرته على التعامل مع أزمات متعددة وحلّها، وخلق فرص عمل. مَهّدت الإدارات الثلاث الأولى لروزفلت (الرئيس ال32 للولايات المتحدة) الطريق للسيطرة الأميركية على العالم، سياسياً وتكنولوجياً واقتصادياً وعسكرياً، بعد الحرب العالمية الثانية، لتكون نقطة إنطلاقة للنفوذ الأميركي.
في المقابل، لا تبدو الأجندة السياسية الخارجية لبايدن واضحة. لكن هذا ليس خطأ بايدن وحده، بل لترامب الحصة الأكبر لأنه لم يُعِر اهتماماً كبيراً للسياسة الخارجية الأميركية فضلاً عن توجيه الشتائم إلى الصين وإقامة علاقات وثيقة مع قادة نرجسيين وطغاة آخرين مثله- كالرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي.
في عهد ترامب، عانت وزارة الخارجية الأميركية من أزمات عديدة. فمن ناحية كانت هذه الوزارة برئاسة شخصية غير كفوءة وانفعالية كمايك بومبيو، ومن ناحية أخرى، شهدت أيضاً تقاعداً مبكراً لعددٍ كبيرٍ من الدبلوماسيين المهنيين المتخصصين، فيما ظلت بعض مناصب سفارات أميركية شاغرة في الخارج. وفيما انتقد بايدن بشدة بن سلمان في مناسبات عديدة، ووصف بوتين بأنه “قاتل”، إلا أن هذا التصعيد في الكلام ليس نافعاً، لا بل رخيصاً، في ظل الإنتكاسة التي تعاني منها السياسة الخارجية الأميركية.
على الصعيد العسكري، كسب ترامب رضا الجماعات اليمينية في أميركا من خلال قصف قاعدة الشعيرات الجوية في سوريا في نيسان/أبريل 2017، والإشراف على اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في كانون الثاني/يناير 2020 بطائرة بدون طيار. كما نال ترامب رضا اليساريين من خلال عدم غزو أي دولة أو قصف المدنيين، وهو أمر كان كثيرون يخشونه في حال فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة الأميركية. وهو لم يولِ سوى اهتمامٍ ضئيلٍ للحرب المستمرة في أفغانستان، فيما تجاهل “هشاشة” العراق سياسياً. وكان تنظيم “داعش” قد خسر معركته وتوقفت عملياته، لذلك لم يكن ترامب مضطراً للتعامل مع هذا الكابوس.
وفي ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، قام ترامب بالاتفاق سراً مع رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو وصهره ومستشاره الخاص غاريد كوشنر، لتولي سلسلة من قرارات السياسة الاميركية، ومنها: نقل السفارة الأميركية إلى القدس، موافقة واشنطن على السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان واعتبارها ملكاً لها في انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي، غضّ الطرف عن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث عانى سكان غزة من حصار قاتل، والأهم إلغاء خطة العمل الشاملة المشتركة حول الإتفاق النووي الإيراني المُبرم في عهد الرئيس باراك أوباما. ولكن يبقى التحالف بين إسرائيل ودول الخليج من أكثر التطورات في السياسة الخارجية المفاجئة لإدارة ترامب، وهو التحالف الذي كان له أثر بالغ في تقويض الدعم العربي للشعب الفلسطيني.
أما الصين، فكانت بمثابة “البيت الأسود” لترامب. فعقب انتشار كورونا، قام ترامب بتحفيز المشاعر المعادية لآسيا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، واصفاً الجائحة بأنها “انفلونزا الصين” (الفيروس الصيني). كما عزّز الكراهية ضد الآسيويين، التي أدت إلى مقتل العديد من الأميركيين الآسيويين. وهو لم يستطع مواجهة غضب المزارعين الأميركيين المتعثرين والعمال الصناعيين العاطلين عن العمل بسبب المشاكل المالية التي عانت منها الولايات المتحدة في عهده، فألقى اللوم على الصين. لكن في حقيقة الأمر، كان للحرب التجارية التي شنّها ترامب، التأثير الأكثر سلبيةً على الأميركيين وبعض حلفاء الولايات المتحدة.
ترتكز السياسة الخارجية والاقتصادية لبايدن أيضاً على الصين التي تعد الآن التحدي الأكبر لإدارته، ولعل أكثر ما يثير قلق إدارة بايدن هو تأثير الصين على المدى الطويل على الهيمنة الأميركية العالمية اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً. ستكتب الصين الفصل التالي من تاريخ العالم، ولن تستطيع الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى أن تفعل شيئاً حيال ذلك.
بالطبع، هناك أسباب كثيرة تدعو لانتقاد الصين بدءاً من ارتكابها إبادة جماعية بحق أقلية الإيغور، عدم تقيدها بحقوق الإنسان في ما يخص سياسات المساعدات الخارجية، الطلب من متلقي المساعدات في إفريقيا دفع أثمان باهظة مقابلها، إضافة إلى أن برامجها التنموية والصناعية تعمل على تأجيج الأزمات البيئية وتساهم بشكل كبير في ظاهرة الاحتباس الحراري. وتعمل الصين بقيادتها الحالية على شن غزوات في الدول الآسيوية المجاورة، ومن المحتمل أن فيروس كورونا ما هو إلا سلاح بيولوجي تجريبي نشأ في مختبرات ووهان. لذا، لدى الولايات المتحدة ومعها العديد من الدول، أسباب وجيهة للقلق من الصين.
إذا أراد بايدن أن يركز على إعادة ترتيب الفوضى التي خلفها ترامب، فهو متورط أيضاً الآن في ترتيب الفوضى خلال رئاستيْ جورج بوش الأب والإبن في العراق وأفغانستان. (الجمهوريون موهوبون جداً في إحداث فوضى في السياسات الخارجية فيما يقوم لاحقاً الديمقراطيون بترتيب المنزل الداخلي الأميركي، وهذا ينجلي بمجرد العودة إلى الأحداث الكارثية في فيتنام وأميركا الوسطى والشرق الأوسط على مدى 50 عاماً).
إن إعلان إنسحاب جميع القوات الأميركية من أفغانستان بحلول 11 أيلول\سبتمبر، أي في الذكرى العشرين لهجمات تنظيم “القاعدة” على نيويورك وواشنطن- كان خطوة جريئة ولكن لها تداعياتها. وفي الصدد، يتساءل الديمقراطيون والجمهوريون عن خطة الطوارئ لإدارة بايدن بمجرد أن تستعيد حركة طالبان السيطرة على أفغانستان، وهو أمر حتمي. حتى كتابة هذه السطور، يبدو أن خطة بايدن تقوم على شن ضربات جوية عند الضرورة. هذه الخطة ليست الحل، بل هي تشكل فقط استفزازاً لطالبان والجماعات الأخرى التي تدعمها. كما من المؤكد أن سقوط أفغانستان مرة جديدة في دوامة العنف ستكون له تأثيرات غير مباشرة على إيران وباكستان، لكن يبدو أن وزارة الخارجية الأميركية لا تفكر بالتداعيات بعيدة المدى.
وينسحب نهج بايدن في أفغانستان أيضاً على العراق وسوريا، وهو “القصف أولاً” على أن يتم وضع خطة أميركية في وقت لاحق. وفي ما يتعلق بلبنان، وفي ظل عدم وجود سياسة أميركية محددة حوله، فإن الإدارة الأميركية تحاول غسل أيديها من هذا البلد الواقع في أزمات مزمنة وتحكمه مافيا فاسدة. ولعل السؤال الأبرز: لماذا نرسل الأموال لمساعدة اللبنانيين إذا كانت ستقع في حساب مصرفي تابع لسياسي فاسد؟ وبطبيعة الحال، إن النفوذ المتزايد ل”حزب الله” يعيق أيضاً إتخاذ موقف موحد للسياسة الأميركية في لبنان، كونه مرتبطاً بشكل كبير بالاعتبارات السياسية الأميركية الإيرانية. لذا يمكن إستنتاج أن الولايات المتحدة سعيدة بتفويض ملف لبنان إلى فرنسا.
وفي الوقت الذي سمح فيه ترامب لنتنياهو وكوشنر بتصميم سياساته الخارجية في ما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، من المرجح أن يعيد بايدن إحياء سياسات عهد كلينتون، بالتركيز على حل الدولتين (المتجمد حالياً). كما سيحاول بايدن إعادة مفاوضات عملية السلام لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وبذل جهود أكبر في إنجاح الحوار. وفي الواقع، لا يبدو أن الإنتقاد المتزايد للناخبين الديمقراطيين، وما يقرب من نصف الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي، للفصل العنصري الإسرائيلي، يثير إنزعاجاً لدى بايدن، أقله حتى الآن.
من جهة، إن الحدّ من الهيمنة أو النفوذ الأميركي يجري على قدم وساق، ومن جهة أخرى، هناك تحديات عديدة وخطيرة في الداخل الأميركي، من بينها انقسام الشعب الأميركي حول أيديولوجيات التفوق الأبيض والإرهابيين المحليين، ما سيجعل من الصعب ألا يركز بايدن على السياسات الداخلية للولايات المتحدة، علماً أنه يقوم بجهود كبيرة مع فريقه لوضع أجندة سياسة خارجية متماسكة.
مع اقتراب النفوذ الأميركي من نهايته، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة لا تملك الإرادة ولا القدرة ولا الموارد المالية لتلبية توقعات وأنشطة القوات العسكرية الأميركية في الخارج.
إن المشاكل التي تعاني منها الولايات المتحدة في الداخل عميقة ومثيرة للقلق. لقد شكّلت حقبة الحرب الأهلية الأميركية المزيد من الأخطار على بقاء الاتحاد الأميركي. لذا، من المتوقع أن يعتمد الناخبون في إقتراعهم في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 على السياسات المحلية وليس الخارجية للمرشح. وبالتالي، لن يكون غياب وجود أجندة سياسية خارجية متماسكة لبايدن عقبة كبيرة أمام الديمقراطيين، الذين يسعون لإعادة انتخابهم.
Social Links: