عمر قدور – المدن :
لم يكن يحتاج نباهة استثنائية التنبؤُ بحصيلة التجاذب الأمريكي-الروسي من أجل التمديد لإدخال المساعدات الإنسانية عبر “باب الهوى”، فموسكو كما كان متوقعاً فرضت شروطها بالسماح بالتمديد لستة شهور قابلة للتجديد لستة شهور أخرى. وهذه الصيغة لا تعطي الجانب الروسي القدرة على الإعاقة بعد ستة شهور ستمضي سريعاً فحسب، بل ستضعه بعد سنة في أحسن الأحوال في موقع من كان قد قدّم تنازلاً أخيراً، لأن فكرة التجديد لستة شهور أخرى تنطوي على حدوث ذلك لمرة واحدة أخيرة.
كما شهدنا لم تهدد الدول الغربية، وهي الممول الرئيسي للمساعدات، بإدخالها عبر الحدود التركية خارج آلية الأمم المتحدة، بل أتى التفاوض حول القرار كأنما لا وجود لسبل بديلة عن الارتهان للفيتو الروسي والشروط المترتبة عنه. وما لم يحدث حالياً يُتوقع أن يكون صورة عما سيحدث بعد سنة، أي أن تصوِّر واشنطن نفسها حينها عاجزة عن التصرف إزاء ما تعترف به كأزمة إنسانية، لأن الفيتو الروسي يقيّدها ولأنها تحترم آليات عمل الأمم المتحدة بحيث لا تتصرف منفردة!
وعندما تضع موسكو سقفاً زمنياً هو سنة كحدّ أقصى فهي تمهل “شركاءها” الكبار في مجلس الأمن لتقبّل ما تطرحه الآن حول حصرية إدخال المساعدات عبر سلطة الأسد، وسيكون “بتعبير مجازي” بشار الأسد آخر الداخلين من باب الهوى مع إغلاق الباب خلفه نهائياً. إن موعد السنة هو، وفق الطرح الروسي، هو موعد الاعتراف التام بشرعية بشار، بما في ذلك الاعتراف بولايته على المناطق الخارجة عن سيطرته، وإنهاء الفصل الحالي بين تأكيد مختلف الفاعلين على وحدة التراب السوري وبين تقاسمه عدم خضوعه لسلطة واحدة.
في الأصل لم يُجرَّد بشار الأسد من شرعية تمثيل سوريا في المحافل الدولية، ورغم أن قرار مجلس الأمن 2254 يجعل منه طرفاً في النزاع “مع الدعوة إلى إنشاء هيئة حكم انتقالي” إلا أن ائتلاف المعارضة أو الإدارة الذاتية “الكردية” لا يحظيان بوجود معترف به في المؤسسات الأممية. ما تطلبه موسكو “من بوابة المساعدات الإنسانية” هو القطع نهائياً مع ما ينص عليه القرار 2254 لجهة إنشاء هيئة حكم انتقالي، والإقرار نهائياً بأن ما سُمّي قيادة سورية للعملية السياسية يعني قيادة بشار نفسه لإصلاحات دستورية لن تمس بطبيعة الحال أسس سيطرته العسكرية والمخابراتية.
إعادة الشرعية لبشار، بإغلاق المعابر الخارجة عن سيطرته أمام المنظمات الولية، فيه مكسب معنوي لموسكو على الصعيد الذي طالما أصرت عليه وهو عدم تغيير أنظمة الاستبداد، مع إبداء الاحتقار للديموقراطية الغربية كبديل لها. لكن فيه أيضاً مكاسب ملموسة مباشرة لجهة سيطرتها مع بشار على تدفق المساعدات الأممية إلى مناطق النفوذ التركي وإلى منطقة النفوذ الأمريكي، مع القبض على ورقة المساعدات ستكون الفرصة سانحة ومستمرة لممارسة الابتزاز الذي تهواه موسكو، وكان بشار منذ اندلاع الثورة قد أظهر هوساً به.
استباقاً للاتهامات ورداً عليها، تحدث المندوب الروسي في مجلس الأمن عن ذهاب جزء من المساعدات الأممية إلى جبهة تحرير الشام المصنفة على لائحة الإرهاب. بعبارة أخرى، لا يستولي بشار وشبيحته وحدهما على مساعدات الأمم المتحدة، بل هذا ما تفعله كافة سلطات الأمر الواقع باستيلائها على نسبة من المساعدات الأممية لقاء السماح بمرورها، وهذا غالباً حال جميع المنظمات غير الحكومية الناشطة في تلك المناطق والمضطرة إلى رشوة المتحكمين بها. أي أن المطلوب من الغرب القبول باستيلاء الأسد على حصته، مع حصر المساعدات به، كتعويض عن العقوبات الغربية عليه. على الصعيد ذاته، كان المندوب الروسي يعرض على الغرب مدخلاً آخر للالتفاف على عقوباته، بذريعة الوضع المتدهور جراء تفشي كورونا، مع أن أرقام الإصابات التي تعلن عنها سلطة الأسد “بصرف النظر عن دقتها أو صحتها” متدنية إلى حد يلامس الانحسار التام للوباء.
للموقف الروسي الخاص بالمساعدات “وما يُبنى عليه” ركائز قوية، فهناك ثقة تامة بأن واشنطن لن تعمد بعد سنة إلى اتخاذ خطوات من جانب واحد لتقديم المساعدات، وهناك ثقة أكبر بأن أنقرة لن تجاري واشنطن على هذا الصعيد، ولأنقرة شروط مرتبطة برعاية واشنطن للإدارة الذاتية تجعل التعاون بين الجانبين محكوماً بسقف منخفض. في أقصى الأحوال، أي في حال التوصل إلى تنسيق أمريكي-تركي، سيكون في وسع موسكو اللجوء إلى التصعيد العسكري المستمر، بحيث لا تشهد مناطق النفوذ التركي استقراراً، مما سيفاقم تردي الأوضاع الإنسانية ويُبقي التهديد بأزمة لاجئين ضخمة متواصلاً طوال الوقت.
الكرملين أكثر من أي وقت مضى مطمئن إلى التوجه الأمريكي، فإدارة بايدن احتفت بالموافقة الروسية على التمديد المشروط للمساعدات، بل اعتبرته دليلاً على نجاح وإمكانية التعاون بين الجانبين. الأهم، بالتزامن مع النجاح المزعوم، رؤية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو انسحاب يظهر مذلاً لاقترانه بتقدم قوات طالبان وربما عودتها إلى حكم البلاد. الانسحاب الأمريكي مؤشر إلى أن إدارة بايدن ستستأنف نهج ترامب وأوباما في عدم انخراط القوات الأمريكية في بؤر نزاع جديدة، وهي البشرى التي يريدها بوتين المتلهف لقطف ثمار الانكفاء الأمريكي.
كان المندوب الروسي في مجلس الأمن أثناء الجدل الذي سبق القرار الأخير، وتقريباً في جميع جلسات مجلس الأمن المخصصة لسوريا، قد اتهم الغرب بالنفاق. والحق أن السلوك الروسي في سوريا واضح جداً وبعيد عن النفاق، ولا يستقيم أساساً مطالبة مَن قصف المستشفيات والملاجئ والبيوت والبنى الخدمية الضرورية بمراعاة الجوانب الإنسانية. لقد أدى الجانب الروسي المهام القذرة التي اعتاد عليها، من دون اعتراض جدي بل ربما مع مباركة ضمنية أمريكية، ومهلة السنة هي لتكف واشنطن عن نفاقها في الشأن السوري. بعد سنة سيكون الوضوح وتوفر الإرادة مقابل غياب الاثنين، ولا غرابة حينئذ في أن يكسب بوتين وأن تحتفي إدارة بايدن مجدداً بنجاح التعاون بين الجانبين.
Social Links: