علي سفر – تلفزيون سوريا
إلى هذه اللحظة، رغم كل المآسي التي صنعتها القوى السلطوية، بأجهزتها الأمنية، وركائزها الطائفية، وكذلك القوى المتطرفة، والقوى الإقليمية والدولية، في مواجهة حراك الثورات العربية، التي بنيت على أهداف واضحة، كالمطالبة بالحريات والديمقراطية وبالتنمية، بقي جمع كبير من مثقفين عرب، مصراً على التشكيك بدوافع الحدث، كارهاً لممثليه، مع اتهام يقيني للثائرين، بأنهم عملاء وخونة، وغير ذلك من صفات فادحة في سلبيتها.
على سبيل المثال، لم توفر الدكتورة حياة الحويك عطية، التي رحلت عن هذه الدنيا، قبل أيام، أي فرصة، من أجل إسباغ النقائص على الصحفيين العاملين في الإعلام المساند لثورات الربيع العربي!
ورغم أن هذه المثقفة الخبيرة في “جيوبوليتيك الإعلام” كما توصف، تنتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي حلم “رفقاؤه” دائماً بثورة تحمل أفكار مؤسسه وملهمه أنطوان سعادة، قد يؤدي حدثها في مواجهة أنظمة مثل الأنظمة العربية الحاكمة، إلى كوارث مشابهة لما حصل في العقد السابق، فإن تقديسها أفكارها الذاتية، وإدمان الأيديولوجيا على شكل عماء عقلي وبصري لديها، سيؤدي حكماً إلى تأييد نظام الأسد وأيضاً إدانة خيارات الآخرين، وتحميلهم أوزار الجرائم التي صنعتها جيوش الدول بحق شعوبها.
عبودية الفكرة الراسخة، واستخلاص مبادئ أخلاقية منها، على المقاس، من أجل محاكمة المتمردين على هذا السياق، هما الوجه الآخر للعبودية المختارة، التي حدثنا عنها ذات يوم الكاتب الفرنسي إتيان دو لا بويسي، وصنع منها مقالته الشهيرة “مقالة في العبودية المختارة”.
العودة بين الحين والآخر لهذه الجرعة العالية من محرضات التفكير واجبة، فعلى نحوٍ ما، كان لهذا الكتاب تأثيره الكبير في طريقة رؤية كثير من المثقفين العرب، لموضوعة “الجماهير” بوصفها الإناء الثوري، الذي تختمر في مصهره النزعات التمردية التي تبثها “الطليعة”.
لكن، ولسبب ما، ربما يحتاج كشفه إلى بحوث نفسية سريرية، أسقط مثقفو الدفاع عن الأنظمة، أفكار صاحب هذا المؤلف من حساباتهم العقلية.
النسخة الأولى من “المقالة” ترجمت تحت العنوان السابق، وتكفلت مجلة (الكرمل) المحتجبة بنشرها في إحدى أعدادها المتقدمة زمنياً، ولكن المنظمة العربية للترجمة قدمت لجمهور القراء العرب ترجمة جديدة قام بها عبود كاسوحة، تحت عنوان مفارق هو “مقالة العبودية الطوعية”، وبغض النظر عن التأويل في الفرق بين عنواني الترجمة، كان يكفي القارئ رؤية أن ملاحق المقالة في النسخة الجديدة تتجاوز حجمها بثلاث مرات، كي يتبين أن أهمية المقالة (كتبت بين عامي 1546 و1548 ونشرت عام 1588)، تتجاوز كونها مجرد بحث شبه مدرسي كتبه مؤلفه في فورة الحماسة الشبابية، فهي وإن نشرت بعد وفاته بعدة عقود، قد حولته من مجرد شاعر وكاتب إلى فيلسوفٍ سياسي، يجري تداول كتاباته لخمسة قرون وصولاً إلى يومنا الحالي..
تذكرُ “مقالة العبودية الطوعية” بترجماتها المتعددة المذكورة أعلاه، وغيرها، على المستوى الشخصي، أنه كان خلاقاً في جدول اليوميات المتأثرة بالحدث اليومي على الساحة العربية، طوال السنوات الفائتة، فالثورات غيّرت معادلات كثيرة، بت فيها مثقفو الأنظمة منذ عقود سبقت حدوثها، ومنها تلك التي غاصت في معملية الحالة النفسية، فصنعت تنميطاً سلبياً للمواطن العربي، فرصفت وجوده، بيقين عجيب، على رف اللافاعلية، والسلبية السياسية، وكأنه قد فضّل -بشكل طوعيٍ-عبوديته المختارة!
غير أن الوقائع التي عاشها الثائرون أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك، أن معادلة الصمت لدى شعوب المنطقة قد وصلت إلى نهاياتها، بعد أن أوغل الطغاة في أفعالهم، إلى مرحلةٍ، لم يعد البشر فيها سوى مطايا لمصالحهم، ومصالح غيرهم.
ما كتبه دو لا بويسي قبل خمسة قرون تقريباً، وجد استحقاقه في صور متتالية من الانتفاضات الشعبية، كانت تتحرك وفقاً لعفوية التمرد الشعبي غير المنظم سياسياً، الذي يذهب صوب تلبية الحاجات الأساسية للناس، ولعله من الأقدار السيئة أن الرؤى السياسية لم تكن مكتملة لدى المنتفضين في ثوراتهم، لكن أصحاب الأجندات الحزبية، ولا سيما الإسلاموية منها على وجه الخصوص، وكذلك المرتهنين للقوى الإقليمية والدولية، كانوا يتحينون الفرصة للانقضاض على نتائج حراك الشباب، الذين دفعوا القمع عن أنفسهم بأياديهم العارية!
الصورة التي رسّختها الحكومات العربية لشعوبها، وجدت مفاعيلها في تجاهلها الدائم لها، فالحكومة ومعها جحفل مثقفيها، وكعادة من يدافعون عن مصالحهم، لم تر في الشباب المنتفضين في الشارع سوى رعاع وسوقة، بينما كانت نوافذ الشبكة العنكبوتية تفتح أمام هؤلاء الذين ملوا الانتظار، مساحاتٍ للفعل الإبداعي والثقافي والفكري، الذي يمكن أن يصنعه الاحتجاج!
بينما تفصح الصورة التي صنعها دو لا بويسي الشاب في صرخاته المبثوثة في مقالته، عن نهج يطابق الشعارات التي صرخ بها المحتجون في شوارع القرى والمدن العربية الثائرة. لكن الأنظمة العربية وبناها العميقة التي نسيت حاجات شعوبها، ظهرت في الحقيقة وبعد عقد الثورات الدامي كنماذج هجينة، غير مسبوقة في التاريخ، تجمع في صفوفها الطغمة العسكرية، وغلاة النهابين، وهي في الوقت ذاته، تركع أمام كل القوى الدولية، مستعدة لبيع كل شيء من أجل أن تستمر وتبقى، ولا تستطيع في المقابل أن تسمح لجماهير شعوبها، أن تفتح طاقة صغيرة، لتتنفس الحرية!
ههنا، لا يوجد في المقاربة أي جهد استثنائي، فكم من كاتب ومؤلف ممانع قد نبه وأشار إلى فساد الحكومات والأنظمة، لكنه سرعان ما تحول إلى مدافع صنديد عنها!
رغم معرفته بأن هؤلاء الطغاة قد أهدروا عقوداً من التنمية ومن حيوات الناس، كما أهدروا الفرص المتعددة التي أتيحت لهم، من أجل أن يتلمسوا فيها مخرجاً لأزمات شعوبهم.
المشكلة المستدامة حقيقة، تكمن في الوهم الذي تصنعه السلطة في عقل مريديها، حتى أمسوا في المحصلة أسرى لعقلها نفسه، وبينما تذهب أوهام “وطنيتها” بهم نحو النهايات، لا يمكن لأفعال السلطة المتجبرة سوى أن تهوي بالشعوب نحو القاع الصفري من كل شيء، كما حدث في العراق، ويحدث الآن في سوريا، حيث تتغرب البلاد عن الحضارة صوب التخلف، والانكفاء على الماضي!
فإذا كان مجرد الاتصال بالإنترنت وبالفيس بوك وتويتر وبالمدونات قد خلق في نهاية عام 2010 (بداية الحراك في تونس)، كل هذه الطاقة لدى الشباب كي يمضوا في درب التمرد، فلنتأمل فيما يمكن أن تمضي إليه قوى الشعوب، فيما لو عاشت بانفتاح وديموقراطية وحرية!
مطالعة “مقالة العبودية الطوعية” أكثر من مدهشة، ولكن المدهش أكثر؛ أن ترى الشعوب قد قرأت الدرس من خلال واقعها ذاته، وبلا ترجمة، ودون فلسفة عميقة، وبلا سياسيين أيضاً!
بينما يموت مثقف هنا، وترحل مثقفة هناك، أسيرين لعبوديتهما المختارة!
Social Links: