مكِّنوا السوريين لا أمراء الحرب: ضد إعادة تصنيف هيئة تحرير الشام

مكِّنوا السوريين لا أمراء الحرب: ضد إعادة تصنيف هيئة تحرير الشام

رهف الدغلي وعزام القصير – ترجمة أحمد عيشة – حرمون

نصحت مجموعة من الأوراق والدراسات السياسية الأخيرة الحكوماتِ الغربية بالعدول عن تصنيفها للجماعة السورية “هيئة تحرير الشام”، كمنظمة إرهابية. إن مثل هذه التوصيات السياسية المشكوك فيها تبرّر عادة من خلال الزعم بأن هيئة التحرير الشام، تحت قيادة أبو محمد الجولاني، هي شريك تفاوضي قادر على البقاء، ومستعد وقادر على كبح جماح الجماعات الجهادية العالمية الأكثر خطورة في سورية.

وبوصفنا باحثين سوريين، نكتب هذه المقالة ردًّا على التحليلات التي تبدو مدفوعة إما بالمثالية الإنسانية وإما بالواقعية الجيوستراتيجية المحضة. ويبدو أن كلا وجهتي النظر تخون الأمل في بناء سلام مستدام في دولة سورية موحدة، وتتخلى عنه. ويبدو أن المناقشات الحالية، بصدد هيئة تحرير الشام والجولاني، تعاني نوعًا من الاضطراب المعرفي الذي يظهر، في بعض الأحيان، عند تقييم وصف “الإرهابي” المتعلق بالاحتياجات الأمنية الغربية. ومن المؤكد أن تجارب الضحايا المحليين في سورية ينبغي أن تؤخذ في الحسبان عند تعريف الإرهاب السياسي.

نحن نجادل بأن الجولاني لا يُظهر الانفتاح بدافع حسن النية. وبدلًا من ذلك، نعتقد أن هيئة تحرير الشام تتعرض لضغوط من كل من المتشددين غير الراضين عن براغماتية الجولاني، ومن السكان المحليين المستائين من إدارة هيئة تحرير الشام للقضايا الاجتماعية والاقتصادية. في السابق، كان أهمّ مصدر لشرعية هيئة تحرير الشام هو إنجازاتها العسكرية خلال الصراع. لذلك، بسبب الجمود العسكري الحالي، شرعت قيادة هيئة تحرير الشام في حملة تهدف إلى تأمين مصدر بديل للشرعية -الاعتراف الخارجي- ولكن بصورة حاسمة ومؤكدة لم يتغير إطارها الأيديولوجي كمنظمة جهادية.

العلاقة بين التبيئة والاعتدال غير موجودة

أحد أكبر التصورات الخاطئة عند الباحثين هو أن الجهاديين العالميين يصبحون أكثر اعتدالًا، عندما يصبحون محليين، على الرغم من عدم وجود صلة راسخة بين التبيئة والاعتدال. وتدلّ إعادة التوجيه هذه على تحوّل إستراتيجي لا يمسّ بالضرورة المعتقدات الأساسية لهذه الجماعات. وبدلًا من ذلك، فإن ما تغيّر هو الضحايا المباشرون لهذا التنظيم و هم السوريون. وبالتالي، لا يستطيع المرء أن يزعم أن هيئة تحرير الشام وأشباهها أصبحوا أقلّ أهمية أو أقلّ خطورة، وخاصة من منظور إنساني.

في المقابلات الأخيرة، تبنّى الجولاني لهجة شعبوية، كما ظهر في أفلام دعائية، وهو يمشي بشكل اعتيادي في شوارع إدلب، ويزور المحال التجارية المحلية، كما لو كان سياسيًا منتخبًا. ولا يمكن أن يخفي ذلك حقيقة أنه قائد ميليشيا جهادية تدين بشرعنة مكانتها للانتصارات في ساحة المعركة. وإذا لم تعد هيئة تحرير الشام تقتل كثيرًا من المدنيين المحليين، فإن هذا لا يعني أن جهاديي الأمس أصبحوا “براغماتيين” و “معتدلين” بما يكفي للنظر إليهم بكونهم أطرافًا سياسية مشروعة. إن السماح لأمراء الحرب في الصراع السوري، سواء أكانوا من الدكتاتوريين ذوي العلمانية الزائفة (كالأسد) أم من الجهاديين “المعتدلين”، بإعادة تدوير أنفسهم كزعماء الغد، هو “واقعية” قصيرة النظر، يمكنها أن تجعل الطريق نحو الديمقراطية والاستقرار والازدهار أكثر صعوبة.

إن التقييمات الجيوسياسية الباردة التي تبرّر التفاوض مع أمراء الحرب مغلفة بادعاءات محاولة فرض استقرار والقيام بكل ما يلزم للحد من العنف وضمان تدفق المعونة الإنسانية. وبوصفنا سوريين ممن عاشوا مباشرة تحت الخطر والقمع ، نقول إن البقاء المادي ليس الاعتبار الوحيد. الناس بحاجة إلى الكرامة والإرادة، بقدر حاجتهم إلى الخبز والوقود. ولن يكون ذلك ممكنًا إذا سُمِح لأمراء الحرب الجهاديين، مثل الجولاني، بالانتقال إلى دور أصحاب النفوذ السياسي المحليين.

أوراق الجولاني التفاوضية

منذ التدخل العسكري الروسي، في أيلول/ سبتمبر 2015، بُنِيت إستراتيجية الجولاني للنجاة على دعامتين: الأولى الحفاظ على زعامة الجولاني؛ والأخرى القفز إلى عربة الانتفاضة الشعبية. يدرك الجولاني أن تحقيق دوره المستقبلي المتوخى، بوصفه وسيطًا سياسيًا يتمتع بالشرعية، يستدعي رفع اسمه من قوائم الجماعات الإرهابية. وقد تبنى هذا الأمر باعتباره أجندة تشدد على أن هيئة تحرير الشام لا تشكل تهديدًا للأفراد خارج سورية. وفي سعيه إلى تحقيق الاعتراف الدولي، يعمل الجولاني على الانتفاع من قضايا اللاجئين، والمساعدات الإنسانية، ومحاربة الجهاديين العالميين. غير أن الجولاني، الذي يقود هذا التحول، قد يقرر فجأة إحداث تحول آخر في اتجاه غير مؤات، ما لم يكن راضيًا في المستقبل لأيّ سبب من الأسباب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي تعاون متسرع مع هيئة تحرير الشام سوف يعطي أيضًا الجماعة الوقت لإتمام الهيمنة الكاملة على إدلب.

ومثل العديد من الزعماء الجهاديين، جمع الجولاني منذ أمد بعيد بين الرسائل المتضاربة للإحسان والتعصب العنيف. إن الجهد الذي بُذل أخيرًا، لإعادة تصنيف هيئة تحرير الشام، لا يخرج عن هذا الاتجاه. وعلى سبيل المثال، فإن رفض الجولاني، في الآونة الأخيرة، لأيّ عنف طائفي من جانب هيئة تحرير الشام أو سلفها جبهة النصرة، يعيد إلى الذهن مقابلة الجولاني مع قناة الجزيرة عام 2015، التي ذكر فيها أن أفراد الأقلية العلوية لن يُقتلوا في ظلّ حكمه، ما داموا يتخلون عن دعمهم للأسد، وعن معتقداتهم الدينية المذهبية.

ليس هناك ندرة في مثل هذه الخطابات طوال صعود الجولاني إلى السلطة: “بالنسبة إلينا، فإن العلويين هم طائفة حادت عن دين الله، وفقًا لأحكام الفقهاء وأهل المعرفة، أما الدروز فهم يخضعون لنشاطاتنا الدعوية. على سبيل المثال، لديهم قبور يزورونها، والإسلام يعدّ هذا شركًا [عبادة الأصنام] لذلك أنهينا ذلك”. ومن عجيب المفارقات هنا، أن هذا التمييز الحاد بين المسلمين “الحقيقيين” في مواجهة المعارضين الهراطقة ومنزوعي الإنسانية، يشبه إلى حد كبير نسخة الأسد المختزلة من المواطنة السورية. وفي كلتا الحالتين، استخدمت صيغ من الأيديولوجية الأصولية لتبرير الوحشية ضد “الآخر” المتخيّل. وفي حالة هيئة تحرير الشام، تم تعريف “الآخر” تعريفًا واسعًا، بأنه أي شخص مستعد لمعارضة هيمنتها، ومن ضمنهم الناشطون المدنيون.

في مقابلة الجولاني مع مارتن سميث، اختطف مرارًا وتكرارًا الدعم الشعبي للسوريين الذين يعيشون في المنفى، من خلال المطالبة بالشرعية على صوتهم ورأيهم، وقدّم نفسه باعتباره الخيار السياسي الوحيد المتبقي. وهذا يماثل ادعاء الأسد بالشرعية الشعبية والدعم. وفي الوقت نفسه، لا ينكر أحد حقيقة أن الجولاني مستعد للانتفاع من الملايين الثلاثة من السوريين الذين يعيشون تحت سيطرته والتلاعب بهم، بعد أن أظهرت جماعته استعدادها لقتل وإخفاء أي صوت معارض. وبالتالي؛ فإن منحه أي شرعية يمكن أن يزيد من انقسام المجتمع السوري ويرسخ توظيف الأسد للخطاب الأمني.

وبغض النظر عن الوجه “البراغماتي” أو الشعبوي المكتشف حديثًا، الذي قد يقدمه الجولاني للغرب، فإن السوريين الذين يختلفون مع آرائه الدينية المحددة لا يزالون بعيدين عن الاطمئنان. كما أننا لسنا مرتاحين للاتجاه الحالي في تحليل السياسات نحو تبني هيئة تحرير الشام، كشريك تفاوضي قابل للحياة. إن أي تعاون مباشر متسرع يمكنه أن يحرم القوى الإقليمية من أي نفوذ للتأثير على هيئة تحرير الشام، في حين يمنحها الوقت والحرية لإرساء هيمنة كاملة على محافظة إدلب، وهذا يعني أن أي جهود لاحقة لإزاحة الجماعة واقتلاعها سوف تصبح مكلفة للغاية.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى مستقبل سورية السياسي؟

نحن ندرك أن هناك حالة إنسانية يتعين القيام بالتعاون من أجلها، لا سيّما عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على وصول المعونة عبر الحدود، وربما التعاون عبر خطوط التماس لمكافحة انعدام الأمن الغذائي الشديد في سورية. غير أنه من الحيوي ألا يتحول أي تعاون إلى إضفاء الشرعية على السيطرة الإقليمية لهيئة تحرير الشام، أو قبولها بحكم الواقع. ومما لا شك فيه، أن أي منظمة غير حكومية تعمل في إدلب تحتاج في بعض الأحيان إلى تيسير مساعدتها الإنسانية بصورة غير رسمية، من خلال التعاون مع هيئة تحرير الشام. وعلى الرغم من هذا الواقع، فإن أي تعاون مع الهيئة المذكورة لا بد أن يكون محدودًا ومشروطًا، لمنع السوريين من التعرض للسحق من قِبَل أيديولوجية الجولاني الاستبدادية. وفي الوقت نفسه، ينبغي على القوى الإقليمية والدولية أن تعترف بأصوات جماعات المعارضة غير العسكرية، وأن تضخّمها، بدلًا من مكافأة أمراء الحرب بالتعامل معهم بوصفهم أطرافًا سياسية فاعلة.

ناشد الجولاني المصالح الجغرافية السياسية الغربية المتهافتة. ولكن من قصر النظر أن نرى فقط الدور المحدود الذي تلعبه هيئة تحرير الشام في تثبيت الاستقرار، في حين نتجاهل الكيفية التي يغذي بها الحكم الشمولي للجماعة الصراع الأكبر مع نظام الأسد، وتفيد في الحد من نمو المؤسسات المدنية الأكثر صحة. إن منطق تبني الشر الأقلّ، على الأقل من منظور غربي، لا يتوافق مع الدعم الحقيقي لأمل السوريين في الوصول إلى حكم مدني مستدام وشامل. وإننا ندرك أن التفكيك المفاجئ لهيئة تحرير الشام قد يؤدي إلى فراغ في السلطة، وربما إلى عودة ظهور خلايا تنظيم (داعش)، ولكن الاستقلال الذاتي الجزئي لإدلب، وتمكينها لوحدها، وتهميش الجماعات الأخرى، يمكن أن يزيد من تعقيد أي إمكانية للتحول السياسي في المستقبل. ولذلك، فإن تعدد المشاركين في السلطة، وإضفاء الطابع اللامركزي عليها، قد يستعيد ثقة سكان إدلب، ويمكّنهم من تسوية المنازعات محليًا على المستوى الشعبي. ويمكن أيضًا أن يوفّر مناخًا شاملًا للمجتمعات الضعيفة.

مع دخول الحرب السورية عامها الحادي عشر، يواصل المجتمع الدولي الدعوة إلى تسوية للصراع عن طريق التفاوض. ومسألة من سيكون على طاولة المفاوضات مسألة معقدة. ويمكن أن يكون الجمود العسكري الحالي فرصة لإعادة تشكيل الأدوار السياسية في معسكر المعارضة. ويمكن أن يكون فرصة للقوى الإقليمية والدولية للاعتراف بأصوات جماعات المعارضة غير العسكرية، وتوسيعها بدلًا من مكافأة أمراء الحرب. وسوف يظل تغيير سلوك هيئة تحرير الشام سطحيًا/ ظاهريًا، من دون السماح للناشطين المدنيين وفصائل المعارضة بالمشاركة الكاملة في إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية والعسكرية في الشمال الغربي. ولكن نظرًا لنهج الجولاني المتبع في إدلب، فإن أي اقتراح بتقاسم السلطة مع الفصائل الأخرى سوف يصبح أداة تطويع وإضفاء شرعية. وهناك خطر آخر يتمثل في أن أي انقسام في المستقبل أو نزاع على الزعامة في هيئة تحرير الشام قد يؤدي إلى زعزعة استقرار محلية هائلة في غياب مجتمع مدني سليم لامتصاص العواقب.

لقد بدأت هيمنة هيئة تحرير الشام العسكرية في إدلب في التحول نحو شكل من أشكال تطويع الحكم المدني، ولكن من دون إدراك الكيفية التي أسست بها الجماعة سلطتها أو الاعتبار للتطلعات السياسية لأولئك الذين يعيشون تحت هيمنتها. وفي الوقت الحالي، فإن طموح هيئة تحرير الشام في الحكم الكامل يفتقر فقط إلى الشرعية الخارجية. وإذا ما اكتسبت الهيئة ذلك، فسوف يكون ذلك على حساب جماعات المجتمع المدني والسوريين الذين يسعون لتطبيق حقوق الإنسان.

  • Social Links:

Leave a Reply