صبحي حديدي – القدس العربي :
أمريكيون كثر، ممّن استمعوا إلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يزجي باللغة الإنكليزية آيات الشكر لمستضيفه الرئيس الأمريكي جو بايدن، لم يكونوا على دراية كافية بمشهد تدخّل الولايات المتحدة العسكري في البلد، أو بالأحرى لم تكن خلفيات ما يُسمى بـ«الفلسفة التدخلية» حاضرة في أذهانهم على أيّ نحو كافٍ في الحدود الدنيا. عراقيون كثر، في المقابل، لم تفلح 30 سنة، باحتساب ما قبل اجتياح 2003، ورئاسات جورج بوش الأب وبيل كلنتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، في تعطيل ذاكرة الرزايا العديدة المتنوعة التي ابتُلي بها العراق جراء الغزو الأمريكي وما أعقبه من سنوات احتلال، تغايرت في الشكل من دون أن تمسّ المضمون كثيراً.
على شاكلة العراقيين كانت، أغلب الظنّ، حال شعوب كثيرة على وجه البسيطة، في إيران، 1953؛ وغواتيمالا، 1954؛ ولبنان، 1958؛ وكوبا، 1959؛ والكونغو، 1960؛ والبرازيل، 1964؛ وأندونيسيا، 1965؛ وفييتنام ولاوس وكمبوديا، 1961؛ واليونان، 1967؛ وتشيلي، 1973؛ وأفغانستان، 1979؛ والسلفادور وغواتيمالا ونيكاراغوا، خلال الثمانينيات… ولا ينسى العراقيون أنّ ما يطلق عليه الثنائي بايدن والكاظمي صفة «الشراكة الستراتيجية» يبدو من المحال فصله عن حصيلة الاحتلال الأمريكي، وكيف كانت مدينة مثل الفلوجة لا تتنفس الصعداء إلا لتبدأ في الاختناق مدينة أخرى مثل النجف، وسامراء ومدينة الصدر والموصل وبعقوبة والرمادي، قبيل العودة إلى استهداف الفلوجة مجدداً. وبالطبع، ظلت الطرائق تعتمد الاجتياح بعد القصف الجوي والمدفعي الكثيف، وكان أسلوب الضغط يبدأ من تجويع المدن ومنع دخول الأغذية والمعدات الطبية وقطع المياه والكهرباء، ولا ينتهي عند تفاصيل همجية وجرائم حرب صريحة مثل مشهد جندي أمريكي يقتل أسيراً عراقياً جريحاً في أحد المساجد، ليس بطلقة واحدة بل بزخّة من رشاشه الآلي.
العراقيون أيضاً لم ينسوا ما تناساه جنرالات الجيش الامريكي من أنّ الفلوجة هذه هي ذاتها التي تعرّضت، في العام 1998، إلى تنكيل شديد واضطهاد وحصار على يد قوّات صدام حسين لأنّ أئمة مساجدها، وهي التي تُلقّب بـ «مدينة الألف مسجد» رفضوا التسبيح لصدّام في عيد ميلاده. في المقابل، كان صعباً على جنرالات أمريكا أنفسهم نسيان السبب المباشر لاندلاع المقاومة في الفلوجة، وأنّ المحرّض لم يكن أبو مصعب الزرقاوي أو فلول البعث الصدّامي كما زعمت آلة الدعاية الأمريكية، بل المجزرة التي ارتكبتها القوّات الأمريكية هناك يوم 28 نيسان (أبريل) 2003 بحقّ الطلبة المتظاهرين ضدّ احتلال مدارسهم، وسقط يومها 18 قتيلاً و200 جريح. وأمّا الجنرالات في مقرّ البنتاغون، ورهط أقطاب المخابرات المركزية، فقد توجّب عليهم أن يسترجعوا مفردة «ضربة الارتداد» Blowback التي ابتكروها بأنفسهم؛ ليس من وحي مجريات الاحتلال في العراق، بل طيّ تقرير سرّي يشرح دور الاستخبارات الأمريكية في الإطاحة بحكومة محمد مصدّق في إيران، سنة 1953، وإعادة تنصيب الشاه محمد رضا بهلوي 25 سنة تالية.
وفي كتابه الكلاسيكي الرائد، الذي يقتبس عنوان المفردة ذاتها، مع عنوان فرعي يسير هكذا: «أكلاف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية» كان المؤرّخ الأمريكي شالمرز جونسون قد حذّر أمريكا من أنّ الزمن لن يطول قبل أن تصل الضربات الارتدادية إلى عمق الولايات المتحدة؛ من باب سداد بعض الأثمان الواجبة لقاء سياسات التدخل العسكري في شؤون الشعوب، واستبدال «العدو الأحمر» الشيوعي بعدوّ جديد يتمّ اختلاقه وتصنيعه تحت مسمّى «الإرهاب» عموماً، وذاك الإسلامي على وجه الخصوص. ولم يكن الرجل يتنبأ بما سيقع بعد 18 شهراً على صدور كتابه، من هجمات إرهابية استهدفت الأبراج وكادت تصيب مبنى البنتاغون ذاته؛ بل كان يتكئ تحليلياً على وقائع عانت منها أمريكا لتوّها: استهداف مركز التجارة ذاته، سنة 1993؛ والهجوم على مدمّرة USS Cole في ميناء عدن؛ وىتفجير سفارتَيْ الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي، صيف 1998؛ حيث لم يكن خافياً أنّ غزوات أمريكا الخارجية هي السبب الأوّل المحرّك.
أطروحة جونسون بسيطة، بقدر ما هي صائبة ومجرَّبة على مدى تاريخ خيارات التدخل الخارجي الأمريكية قبل الحرب الباردة وخلالها وبعدها: الضربة الارتدادية هي وسيلة أخرى للتعبير عن حقيقة أنّ «أمّة ما تحصد ما تزرعه. ورغم أنّ الأفراد يعرفون عادة ما زرعوا، فإنّ من النادر أن يمتلكوا المعرفة ذاتها على مستوى وطني، خاصة حين يبقى الكثير ممّا زرعه مديرو الإمبراطورية الأمريكية طيّ الكتمان». وعلى صعيد المفهوم، يتابع جونسون، تُدرَك الضربة الارتدادية على نحو أفضل عبر تجلياتها المباشرة الواضحة: «عواقب السياسة والأفعال الأمريكية في البلد أ، تفضي إلى تفجير سفارة أمريكية في البلد ب أو مقتل مواطن أمريكي في البلد ج»؛ وهذا قد يكون مجرّد سائح أو قسّ أو متطوّع لمهمة إنسانية أو، غنيّ عن القول، عميل مخابرات سرّي. غير أنّ الضربة الارتدادية لا تقتصر على هذه الأمثلة العيانية، ففي معناها الأوسع تنطوي على محاق أنساق هيمنة الإمبراطورية الأمريكية الأخرى، في الصناعة والاقتصاد والثقافة والعلوم، فضلاً عن تشوّه صورة أمريكا الإجمالية في ناظر الشعوب عامة وليس تلك التي تعاني من الاجتياح والغزو وحدها.
وحتى إذا شاء المرء وضع آراء جونسون جانباً، في كتابه المشار إليه أعلاه كما في كتابه الآخر الذي لا يقلّ أهمية وحفراً في جسد الإمبراطورية الأمريكية، والذي صدر سنة 2010 تحت عنوان «تفكيك الإمبراطورية: أفضل آمال أمريكا»؛ فإنّ مشهد الضربات الارتدادية التي تقترن الآن بالوجود العسكري الأمريكي في العراق، وسوف تعقب الانسحاب الوشيك غير الكامل، حاشد وحافل ومعقد، لتوّه. والأمر هنا لا يقتصر على فصائل مسلحة شيعية المذهب إيرانية الولاء تأتمر بما يطلبه جنرالات «الحرس الثوري» الإيراني أو يفتي به المرشد الأعلى علي خامنئي؛ فالأبعد أثراً، وأشدّ خطورة، هو الحصاد ذاته الذي زرعته سنوات الغزو والاجتياح والاحتلال، حيث لن يكون مثال هيمنة «حزب الله» في لبنان هو النسق الوحيد الذي يُرجّح تثبيته تدريجياً في عراق ما بعد انسحاب القوات الأمريكية. وبهذا المعنى فإنّ حديث الثنائي بايدن والكاظمي عن «شراكة ستراتيجية» لا يتجاوز الإطناب اللفظي، إذا لم يقارب اللغو في المعنى.
كان بايدن هو ذاته السناتور الديمقراطي الذي تحمّس لغزو العراق وصوّت عليه، ولن ينفع كثيراً أنه اليوم اعتبر موقفه ذاك «خطأ» فهذا أيضاً كان الحكم الذي أصدره ذاتياً العشرات من صقور الدفع نحو الغزو، بما في ذلك بوش الابن نفسه. وأمّا الكاظمي فقد جاء إلى رئاسة الحكومة من بوّابة الاستخبارات العراقية، التي لم تترك وسيلة تنكيل إلا واستخدمتها ضدّ مقاومي الاحتلال ومعارضي النظام في آن معاً؛ حتى انتهى به الأمر اليوم إلى انحناء أمام أمراء الحروب والمذاهب والميليشيات أجمعين على وجه التقريب، من دون خدمة «الدولة» ذاتها التي تُنتهك مؤسساتها كلّ يوم على مسمع ومرأى رئيس الحكومة.
وليس بيان «الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية» التي تضمّ «كتائب حزب الله» العراقي و«عصائب أهل الحق» و«كتائب سيد الشهداء» و«حركة النجباء» سوى أوّل النُذُر على عواصف هوجاء تنتظر عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، ويصعب أن تُرى منحصرة في استهداف حفنة من جنود أمريكا المتبقين لأغراض «التدريب» بل ستذيق الشريكين الأمريكي العسكري والعراقي الحكومي أهوال ضربات ارتداد قائمة لتوّها أو تنتظر العراق، على قدم وساق.
Social Links: