الكاتب : حافظ قرقوط
عندما انتهى من كتابة رقمٍ على جثة جاري واقترب بقلمه ليكتب رقمي على جثتي، كان وجهي أكثر شحوباً مما توقعت. قررت حينئذٍ أن أحاول التلطف مع الرجل علّه يُصغي إلي ويكتب اسمي عوضاً عن رقم، همست بأذنه بهدوء كي لا يسمعَنا زميله الذي يقف خلفه ويحمل ملفات الأرقام، وقلت له :
إن أمي قد لا تتعرف عليّ من خلال عظامي، فالعظام ربما تتشابه بين البشر، ولطالما كانت تبتسم وهي تداعب خدّي بأصابعها لتتأكد أن رائحة طعامها تغلغلت في لون المسام فتوردت، كما أكدتُ له أن خدّي كان دائماً ينبض حيويةً ويمتلئ بهجةً من لمستها وابتساماتها. تجاهل الرجل كلماتي ووضع القلم العريض الذي بيده على جبيني وبدأ يمرره ليرسم أول رقم، حدّثت نفسي على عجلٍ قبل أن يكمل الكتابة وأقنعتها، توقعت في تلك اللحظة بأنه قد لا يعرف اسمي ، فهمست له من جديد بطريقةٍ أخرى وأوضحت له أن الأجساد سوف تتحلل بعد فترةٍ من الزمن ولن تحتفظ بملامحها وخاصةً أن أشكالنا تبدّلت بشكلٍ مريعٍ خلال إقامتنا في هذا السجن، ، وأضفت: حبذا أيها الرجل أن تعاملني ببعض اللطف، فرحلتي بهذا العمر انتهت، هل تساعدني وتلفظ الرقم الذي تدونه على جثتي لكي أحفظه كي لا يتحلل معها. لم يكترث لكلامي نهائياً ولم يجبني على الإطلاق، فمن النادر في هذه البلاد أن يجيب سجّان على سؤال مسجون، فكيف بجثة كجثتي؟ لكنه بالوقت نفسه التفت إلى زميله وقال له بإعجابٍ إن جبيني ناعمٌ جداً وجيدٌ لكتابة الرقم، بل ربما يمكن كتابة لافتةٍ عليه لتخليد الانتصار، ثم ضحكا وهما يدفعان جثة جاري المستلقية بجانبي كي يستطيع رفيقه العبور نحو الزاوية المضيئة ويصوّرني بشكلٍ منفردٍ. . مازال جاري مبتسماً منذ أن غادرت روحه ما بقي من جسده، لا أدري لماذا أثارت ابتسامتُه ذلك الرجل الذي يحمل ملف الأرقام والكاميرا، فطلب من زميله صاحب القلم العريض أن يخفي الابتسامة ببعض الخربشات، لكن جاري فهم من نظراتهما أنه انتصر عليهما بابتسامته وأنها على بساطتها تستطيع أن تجلدهما ولو لمرةٍ واحدةٍ مقابل كل تلك الركلات والسياط وما رافقها، وهكذا أصبح كلما تحرّك القلم على وجهه ازداد ابتساماً.
حدثني جاري عن أمه كثيراً عندما كنا في الزنزانة ومما قاله عنها إنها أخبرته عن ولادته وكيف أنه عندما وُلد قد ضحك وأضحك الجميع عوضاً عن البكاء الذي يرافق ولادة الأطفال، وهنا أيضاً في الزنزانة كان كلما عاد من عقوبة الجلد أو الكرسي الألماني أو جلسات الكهرباء يضحك فيضحكنا جميعاً على الرغم من دمائه النازفة.
في الحقيقة هنا رغبت أن أضحك مثله، خصوصاً عندما تجاهل الرجل طلبي بأن يعطيني الرقم، ومرّر رأس القلم على جبيني ليكتبه، فسقط القلم من يده واختفى أسفل عنقي، قال لزميلِه على الفور: هذا جبينه كقطعة رُخامٍ، حتى جلد جبينه مشدودٌ إلى آخره ويكاد العظم يظهر من خلفه.
بصراحةٍ لا أتذكر آخر مرةٍ أطعمونا فيها بقايا خبزٍ متعفنٍ تعمّدوا أن يرشّوا عليه بعض البول وهم يقهقهون، لكني أتذكر أنها كانت آخر الوجبات التي تناولتها، وأتذكر جيداً أن عظام جاري كانت تبدو بالزنزانة أطول من عظامي، أمّا عظام وجهي فكانت بكل تأكيدٍ أكثر لمعاناً من عظام وجهه وخاصةً بعد أن شوّهوه ببعض الجروح الغائرة وكسروا بعض العظام كي يمنعوه عن الضحك، أيضاً ربما كان شعاع الضوء البسيط المتسرب من أسفل باب الزنزانة هو الذي يعطي لعظامي بريقَها بحسب تمددي بالزنزانة.
هنا حين اقترب الرجل ليمسك قلمه الذي سقط أسفل عنقي أصبح رأسه أقرب إلى وجهي، كان زميلُه خلفه يجهّز عدسة كاميرته لالتقاط الصورة التذكارية التي تخصّني فاقتنصت الفرصة وهمست لصاحب القلم من جديد: هل من وقتٍ لدي لأبتسم للكاميرا التي بيد زميلك عسى أن تراها أمي وتخفف من حزنها؟ لم يجبني على الإطلاق فسألته بطريقة أخرى:
-أما عرفتني؟ انظر بوجهي جيداً.
تفاجأ الرجل من كلامي ورجفت يده فتأكدت أنه سمعني، كان جسمي البارد يشبه برودة وجهِهِ على الرغم من أن وجهي أصبح متصّحراً ووجهه مكتنزٌ، لا أدري هو منذ أي وقتٍ قد مات وهل حصل على رقم أم أنه ميتٌ بلا اسمٍ ولا رقمٍ في هذه الحياة. بعدما ارتعش جسدُه وهو يلمّ القلم، التفت إلى زميله حاملِ ملفّ الأرقام والكاميرا وسأله بقلق: هل لاحظت شيئاً؟ أجابه بلا تردد : نعم، إنه يشبهك.
Social Links: