حوارات د صادق العظم

حوارات د صادق العظم

تنقل لكم الرافد حوارات للمفكر السوري الكبير الراحل د صادق العظم ولان الحوار طويل سننشره على ثلاث حلقات، وهذا الحوار اجراه مركز الجمهورية

حوارات د صادق العظم

٢
على عكس كثير من اليساريين والماركسيين في سوريا والعالم، يبدو موقف صادق جلال العظم واضحاً لا لبس في انحيازه إلى الثورة السورية. أين تكمن جذور الغموض والتشتت اليساري تجاه الثورة؟ وماذا يمكن أن تكون عواقب ذلك على مستقبل اليسار في سوريا؟

بسبب طبيعة هذا السؤال، أسمح لنفسي أن أبدأ بالكلام قليلاً عن نفسي. كثيراً ما سُئلت ما إذا كانت الانتفاضة الشعبية في سوريا على نظام الاستبداد وحكمه وفساده قد فاجأتني أم لم تفاجئني؟ جوابي هو نعم ولا في وقت واحد. نعم، فوجئت بتوقيت اندلاع الانتفاضة مع تخوف كبير في البداية من احتمالات قمعها بسرعة بسبب مما أعرفه عن صلابة المنظومة الأمنية السورية وشراستها القمعية وتغلغلها في مسامات الجسم السوري وتحكمها اليومي بجميع حركاته وسكناته تقريباً. شكّل هذا الواقع عندي (وعند غيري) نوعاً من عقدة النقص الراسخة بالعجز أمام النظام العسكري الأمني الكلي وسطوته، كما أدى إلى استبعاد أية فكرة أو حتى احتمال لقول لا (فردية أو جماعية) كبيرة له. داريت عقدة النقص في داخلي بالتكيف اليومي البطيء مع هذا الواقع الأمني- الاستبدادي المرير والضاغط دوماً، كما داريتها بالاستبطان الجيد لقواعد وأصول التعامل معه بكل ما تتطلبه من نفاق وتظاهر بالتصديق والقبول والتكتم والتقية والتلاعب بالكلمات والتحايل في مواجهة القوة العارية. لولا ذلك لما تمكنت من الاستمرار في حياتي العادية والقيام بالأعمال الروتينية والمهام اليومية، أو من المحافظة على صحتي النفسية والعقلية.

كيف لي إذن أن لا أنحاز لهذه الثورة الشعبية العارمة ضد هذا النوع من الاستبداد والظلم والقهر بغض النظر عن طبيعة القناعات التي أحملها إن كانت يسارية أو ماركسية أو وسطية، أو حتى يمينية؟ مع ذلك، أعتقد أن المنهج الماركسي في البحث والتحليل والتفسير هو الذي يعطينا القدرة الأفضل والأرقى على فهم قيام الثورة وتحديد أسبابها الأعمق والبحث في خلفياتها التاريخية والاجتماعية وإلى جانبها والدفاع عنها.

كلّا، لم أتفاجأ بالثورة على نظام الاستبداد – كما تفاجأ هو– بسبب من بعض التجارب والملاحظات الدالة والمستمدة من المعايشة والتفاعل الحي مع الحياة اليومية في سوريا وبخاصة في دمشق، وهي دلالات وملاحظات وتجارب أثبت النظام عجزه عن التقاطها أو حتى الاقتراب من معناها ومغزاها، لأن طبائع الاستبداد لا تسمح بذلك على ما يبدو. أعود لأقول بأني لم أتفاجأ بالثورة لأنه انتابني (كما انتاب غيري) إحساس مبهم بالتوجس والقلق والخوف على سوريا عموماً بعد القضاء على «ربيع دمشق»، حيث بدت لي سوريا عالقة على حافة هوة سحيقة ما، وأن السقوط آت لا ريب فيه. كانت الحياة في دمشق، على سبيل المثال، تبدو هادئة وعادية ورتيبة على السطح، مع ذلك كنت ألمس وأتأكد أن حمماً بركانية كانت تتفاعل تحت السطح بقليل والجميع يحاول التعامي عنها، قدر الامكان، على أمل أن تبقى تحت السطح لأطول مدة ممكنة ولا تطفو بسرعة على وجه الحياة في البلد. لما قامت الثورة، انفضّ هذا التناقض بين مظهر سطح الحياة الهادئ والطبيعي بزيفه وافتعاله، من ناحية أولى، وبين البركان الحقيقي الذي كان يعتمل تحت السطح، من ناحية ثانية، وكان لا بد لي أن أنحاز إلى الحقيقي والأعمق وأقف إلى جانبه وأترك لغيري مهمة تبرير السطح المزوّر والدفاع عن المزيف والوقوف إلى جانب التافه. استمعت إلى ناس عاديين جداً وبسطاء جداً يعبرون عن الاحساس بهذا التناقض بأقوال عاميّة عفوية مثل : «بدها كبريتة لتولّع»، «بدها شرارة لتهب»، «بدها ولعة لتشتعل»، «بدها فتيشة لتنفجر».

أما في الأوساط الثقافية فقد كان لكل واحد من المثقفين أسلوبه وتشبيهاته واستعاراته الخاصة لقول الحقيقة ذاتها. في مقابلة مع مجلة «نيوز ويك» الأمريكية سنة 2007، عبّر علي فرزات عن الوضع بقوله «إما الاصلاح أو الطوفان”، كان تشبيهي المفضّل في تلك الفترة هو أن سوريا الآن مثل طنجرة بخار ترتفع حرارتها بسرعة ويرتفع ضغطها ساعة بعد ساعة، علماً بأنه جرى تعطيل صمامات الأمان كلها. أما أحمد برقاوي فقد كان يقول في مجالسه الخاصة «إن الشرخ في سوريا قد وقع وقضي الأمر». وكان هناك من يموه على نفسه بالقول «الجميع يعرف حقيقة الوضع في البلد وما يجري فيه، ولكن ماشي الحال..». البعض الآخر توصل إلى قناعة “بأنه لم يبق من النظام سوى وظيفته كصمام أمان أخير حتى لا يقتتل السوريون فيما بينهم”، مع ذلك فوجئ النظام أكثر من غيره باندلاع الانتفاضة والثورة.

أنا أدرك أيضاً أن الثورة السورية هي تصفية حسابات لسورية مع نفسها ودفع فواتير متأخرة عن ما سبق لنا من تقاعس وتخاذل وصمت وجبن سوري في لحظات مثل لحظة حصار مدينة حماه سنة 1982، وتدميرها والفتك بأهلها، ولم تحرك سوريا ساكناً يومها على الرغم من أننا جميعاً كنا نعرف تماماً ما الذي كان يحدث في حماه في ذلك الوقت. كما تقبّلت سوريا لفترة طويلة جرائم حكامها في القتل والتعذيب وارتكاب المذابح والحبس التعسفي والاختفاء القسري وعشرات آلاف المفقودين بهدوء، وكأنّ ذلك كله ممارسة عادية ومسألة طبيعية.

ثم جاءت لحظة توريث السلطة والحكم الجمهوري في سوريا سنة 2000، وبلعت سوريا الإهانة بهدوء ورصانة لا تحسد نفسها عليها في هذه الأيام، وتبذل الدماء الآن لمحو آثارها. وفي اللحظة التي حاول فيها «ربيع دمشق» إشعال شمعة عند نهاية النفق المظلم، تم القضاء عليه وعلى شمعته بشراسة مشهودة، ومرة ثانية سكتت سوريا وتقبلت قمع ربيع دمشقها بروتينية عجيبة. أعود لأقول، بثورتها اليوم تبذل سوريا هذا الكم الهائل من الدماء تكفيرا عن خطاياها هذه كلها ومحواً لعارها، ولذا أنا معها.

أما بالنسبة للشقّ الثاني من السؤال المتعلق بغموض والتباس موقف اليسار من الثورة، فاقول: أولاً، معروف أنّ اليسار كان يجمع ملتزمين ونشطاء وأنصار وكوادر ومؤيدين من الخلفيات والانتماءات الدينية والطائفية والمذهبية والجهوية والأثنية والعشائرية كلها باتجاه مستقبل يتجاوز الانتماءات والولاءات الأولية شبه الطبيعية هذه، باتجاه حالة مدنية وعصرية أرقى. بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار اليسار وتشتته في كل مكان تقريباً (بخاصة الأحزاب الشيوعية بتعددها وتنوعها)، ارتدّ الكثير من هؤلاء اليساريين إلى ولاءاتهم الأولى والأولية والأكثر بدائية، وبخاصة الطائفية والمذهبية والدينية منها، وأخذوا يحددون مواقفهم من الثورة استناداً إلى الولاءات والالتزامات التي عادوا إليها واحتموا بها وليس استناداً إلى يساريتهم المكتسبة والضائعة لاحقاً.

ثانياً، بعد انتهاء الحرب الباردة أيضاً على النحو الذي انتهت عليه، انقسم اليسار إلى كتلة كبيرة تبنت ما يمكن تسميته «ببرنامج المجتمع المدني» والدفاع عنه، وهو البرنامج الذي يؤكد مسائل مثل: احترام شرعة حقوق الإنسان (حتى لو قولاً وبالحد الأدنى فعلاً)، أولوية فكرة المواطنة وممارساتها بالاضافة إلى الحقوق المدنية والحريات العامة، المساواة أمام القانون، فصل السلطات، علمانية الدولة وأجهزتها، القضاء المستقل، الديمقراطية وتداول السلطة والحكم فعلياً، وليس تداولهما بين الآباء والأبناء والأحفاد والأقرباء كما هو حاصل في سوريا اليوم. بعبارة أخرى، الكتلة الأكبر من اليسار تراجعت إلى خط الدفاع الثاني المتمثل «ببرنامج المجتمع المدني» والدفاع عنه في وجه الاستبداد العسكري- الأمني– العائلي القائم من جهة أولى، والظلامية الدينية القروسطية الزاحفة من جهة ثانية. أعتقد أن هذه الكتلة من اليسار على العموم متعاطفة مع الثورة في سوريا، وبالتأكيد ليس لها موقف عدائي منها أو حاد ضدها، علماً بأن لهذه الكتلة دور كبير في صناعة الربيع العربي عموماً. كما أن معظم اليساريين المؤيدين للثورة ينتمون إليها بصورة أو أخرى.

أما الكلتة الأصغر من اليسار فقد تعصّبت لمواقفها السابقة، وكأن شيئاً لم يكن مع انتهاء الحرب الباردة وأخذت تميل مع الوقت إلى المواقف وأساليب العمل ذات الطابع الطالباني–الجهادي أو الطائفي المذهبي المنغلق على نفسه، أو حتى على الإرهاب «البن لاديني» بعنفه الأعمى نكاية بالغرب والرأسمالية العالمية (التي انضمت روسيا والصين إلى عالميتها) والامبريالية. هذه الكتلة من اليسار، عربياً وعالمياً، هي الآن الأكثر عدائية للثورة السورية والأقرب إلى دعم نظام الاستبداد العسكري والأمني والعائلي فيها بحجج كثيرة ليس أقلها تآمر الكون بأسره، فيما يبدو، على هذا النظام المحب للسلام والاستقرار وإن كانت سلامته واستقراره هما من قبيل سلام القبور واستقرارها. يطرب هذا النوع من اليسار بإشغال نفسه «بلعبة الأمم» و«بالتحليلات الجيوسياسية» الكبرى وبحكايات تصادم مصالح الدول العظمى ومشاريعها في الهيمنة في منطقتنا، ولا يريد أن يرى الثورة في سوريا إلاّ من خلال «طربه» هذا، مهملاً كل ما يمت بصلة إلى سوريا والسوريين الأحياء الثائرين اليوم، ومتغاضياً عن الأسباب التي دفعت شعبها إلى الثورة سلمياً وثم إلى حمل السلاح في وجه الطغيان «الوطني» الذي يتحالف معه هذا النوع من اليسار ويتعصّب له. بعبارة أخرى، لا مانع لدى هذا اليسار من التضحية بسوريا إن كان في ذلك انتصاراً موعوداً للجهة الدولية و«الجيوسياسية» التي يريد لها النصر العالمي في «لعبة الأمم»، أي أن الهم الأول عنده ليس سوريا وشعبها الثائر لاستعادة جمهوريته وحريته وكرامته، بل لعبة الأمم على مستوى الكون كله والطرف الذي يراد له الفوز فيها

  • Social Links:

Leave a Reply