الخارق للواقع… حين ينكشف الظلام

الخارق للواقع… حين ينكشف الظلام

بقلم: ماجد مرشد

وهناك من يفصل بين العجيب المدهش القائم على الخرافة والمعتقدات اللاعلمية، وبين الخارق للواقع القائم على البحث عن مفهوم جديد في الحياة، فرضه الواقع المتطور، والاهتمام بتاريخ الحضارات والأديان، الذي غير بعمق المفهوم الذي يحمله الإنسان عن نفسه، فاعتبر الخارق للواقع يرتبط بواقع اجتماعي ثقافي خاص وحقيقي، استمد شرعيته ونظم تفكيره وطروحه من واقع مجتمعات أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، خاصة في أوروبا، حين انتشر العلم وسيطر العقل وظهر تراجع ملحوظ بالإيمان الديني، حيث انتظم فيها العالم حسب قوانين وقواعد مفهومة، وثابتة، تنطلق من غزو ما فوق الطبيعي للعالم المنظور، حين انتصرت الوضعية العلمية، من نظريات داروين التطورية، والاكتشافات الفلكية والفيزيائية، ومذهب شوبنهور الفلسفي، ونظريات التحليل النفسي حول اللاوعي والأحلام والهذيان والعبقرية والعامل الوراثي والتنويم المغناطيسي، ومن بنية الذرة إلى الكهرباء والفيزياء والعلوم الحديثة، وابتداءً بالأحياء والجمادات وليس انتهاءً بالمجرات والأفلاك. «حيث يفسر فيه كل شيء بالعقل: من حركة الذرات حتى حركات الكواكب، مروراً بحركات القلب والفكر».(3)ويرى البعض، أن العجائبية لم تتبلور في الأدب إلا منذ القرن الثامن عشر «ونحن إذ نقرأ في الآداب العالمية، نجد أن من أهم المراحل التأسيسية للرواية؛ مرحلة الرواية العجائبية، وهي خليط من الواقع والخيال والمستقبل والماضي، وحكايات التراث الشعبي المشبعة بالسحر والمغامرات والخرافات والأساطير. وقد بدأت طلائع التأليف في هذا اللون من الأدب، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا خلال القرن الثامن عشر رداً على غلاة العقلانية».(4)لكنها كانت موجودة قبل ذلك بكثير، «فالعجائبية من حيث هي شكل من أشكال القص قديمة، استهلكها التراث العربي منذ زمن في المدون منه والشفوي. فلا ينكر عاقل الكم الهائل من العجائبي الذي احتوت عليه حكايات “ألف ليلة وليلة” التي تزخر بقصص أسفار السندباد، وما تحمله من الحديث عن المخلوقات العجيبة والكائنات الخرافية والأماكن الأسطورية التي وطئتها أقدام السندباد.أما من حيث هي مصطلح نقدي فهي جديدة، تلتصق التصاقاً وثيقاً بالخوارق، هذه الأخيرة التي تعمد العجائبية الى جعلها طوع الأجواء السردية».(5)ويرى آخرون، أن من كبار مؤسسي الخارق للواقع: هوفمان،‏ وتيوفيل غوتييه، وبروسبير ميريمي، وإدغار آلان بو، وشارل نودييه، وغي دو موباسان، وبرايم ستوكير، وهنري جيمس، ولوفير كرافت، وفرانز كافكا….. ممن دشنوا أدباً فانتستيكياً جديداً متجذراً في الخيال، ويقوم على بناء لعبي للحبكة، يتجاوز قوانين السببية الزمانية والمكانية، ويختلط فيه الموضوعي بالذاتي، يقوم على توظيف الأساطير لتفسير الحالات النفسية الخاصة.‏لكن الخارق- على قول تودوروف- ليس له وجود قائم بذاته، بل هو إحساس لا يدوم سوى الوقت الذي يستغرقه تردد القارئ بين التفسير العقلاني والتفسير الغيبي… وحين يستقر على أحد الرأيين، يخرج من الخارق ويدخل نوعاً مجاوراً له هو الغريب أو العجيب.ولعل الأعمال الأدبية التي توسّلت أو تناولت ما هو خارق للواقع، من الكثرة بمكان، إذا ما اعتبرنا حكايات الشعوب القديمة، وأساطير العوالم القديمة (ما بين النهرين، الفراعنة، الإغريق، الرومان، الهند، الصين، الأفريقية، الأميركية…) وحتى الكتب الدينية بما تحتويه من غيبيات… كلها مظاهر خارقة للواقع أو عجائبية. قد يكون الإهمال الذي ما يزال يخضع له هذا المفهوم، كبيراً لدرجة أنه يصعب أحياناً الحصول على النصوص الأدبية أو النظرية، التي يمكن تصنيفها على أنها تنتمي إلى هذا المفهوم؛ من ترجمات تقريبية، طبعات نقدية، كتب نافذة… وقد لا تنتهي من تعداد العقبات التي تظهر لكل شخص يرغب بالتعمق حول هذا الموضوع.في المقابل، إن فحصاً منهجياً لمدونة واسعة، بما فيه الكفاية، يجب أن يسمح بتهيئة بنية شكلية تقدم بشكل ما، بياناً محدداً وعملياتياً، لكل القصص الخارقة للواقع دون استثناء. وهذه، البنية، حسب كلام “تشومسكي”: تشكل البنية الشكلية لأجل الدراسة العميقة، التي تبحث في تجنيس المفهوم.وبرأي جويل مالريو، «يستند الخارق للواقع إذاً، على اختراق ما فوق الطبيعي في اليومي الرتيب، هذا الاختراق المدرك حسياً كخرق للقوانين العامة التي يستند عليها المجتمع والطبيعة والعالم. بينما في العجيب، ليس هناك عقبات لبروز جني أو جنية أو لتدخله في حياة البطل: فهذا أمر منتظر. هذه الشخصيات تشكل جزءاً من العالم العجيب، ولها مكانها فيه. نحن في عالم “كان في ماضي الزمان”. البطل هو الإنسان الذي يسكن على تقاطع شارعين، البطلة هي المرأة التي صادفها في متجر كبير».(6)في الوقت ذاته، إن البنية الشكلية للقصة الخارقة للواقع، مثل بنية أي شكل تعبيري آخر، لا تنفصل عن حالة معينة من المعارف، ومن التقنيات، ومن النظم الاجتماعية، والذهنيات، في بلدان معينة، لعصور معينة. فالبنية هي تعبير عن نمط فكري خاص.(يتبع)الإحالات:3- د. عبد الهادي صالحة، مقال بعنوان “الخارق للواقع.. القلق الوجودي في الأدب”، الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية، بتاريخ 25/9/2012. http://thawra.sy/_print_veiw.asp?FileName=37681762201209250854204- “العجائية في أدب الرحلات.. رحلة ابن فضلان نموذجاً”، أطروحة لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي، إعداد الطالبة الخامسة علاوي، إشراف الأستاذ الدكتور حمادي عبد االله، جامعة منتوري- قسنطينة- الجزائر، السنة الجامعية 2005، موضوع البحث.5- الإحالة السابقة نفسها، موضوع البحث.6- جويل مالريو، الخارق للواقع، ترجمة الدكتور عبد الهادي صالحة، دمشق 2017، (قيد الطبع).

  • Social Links:

Leave a Reply