توظيف الإيديولوجيات

توظيف الإيديولوجيات

. ٠ بقلم: صبحي انطون ‏

في الآونة الأخيرة كثيرا ما نسمع و نقرأ انتقادات لاذعة للأيديولوجيا وصولا إلى رفضها كليا و اعتبارها شرا مطلقا. ورد ذلك على ألسنة الكثيرين من ضمنهم شاعر و مفكر سوري في أكثر من مقابلة، و أخيرا في مقابلة لأحد الفلاسفة جاء فيها هجوم على جميع الإيديولوجيات دون تمييز. بدءا من الإيديولوجية الإسلامية مرورا بالقومية وصولا للماركسية. جمع كل هذه الإيديولوجيات في سلة واحدة، و لم يكلف نفسه عناء التمييز و الفصل بين ما هو مثالي منها وبين ما هو مادي. تفوق في رمي جميع الأيديولوجيات بوافر من النعوت و الصفات. مرض إيديولوجي، عماء إيديولوجي، عبث إيديولوجي، وسخ إيديولوجي، خرف إيديولوجي، جنون إيديولوجي.بعد كل هذا الوصف و التوصيف لم يستطع أن يفهم حسب قوله ” كيف يمكن للواحد أن يموت من أجل إيديولوجيا ميتة ؟ ” . غاب عن الفيلسوف المحاضر أن هذا الواحد عندما يكون في مرحلة الإيمان يقبل التضحية بنفسه من منطلق إيمانه بأن فهمه للإيديولوجيا التي آمن بها ستنقذه من واقع الحال المزر الذي يعيشه إلى واقع حال أفضل يؤمن له تطلعاته الدنيوية أو الروحانية. ثم عقب على ذلك بقوله ” أن الدين هو أصل الإيديولوجيات جميعها ” .!! الدين هو أحد مكونات الوعي، هذا التعريف هو الأكثر دقة. إن أولى الخطوات التي خطاها ماركس كانت ( نقد الدين هو الشرط الأولي لكل نقد). و انسجاما مع الواقع الحسي المتطور كانت ثلاثيته المعروفة ( نقد الأرض بدلا من نقد السماء، و نقد السياسة بدلا من نقد الدين، و نقد القانون بدلا من نقد اللاهوت). وتابع الفيلسوف قوله بأن الإيديولوجيا رومانسية و ليست واقعية. لم يحدد أية إيديولوجية هي الرومانسية ؟ ما قوله في الإيديولوجيا الماركسية التي تعتمد المادية الجدلية و المادية التاريخية و التي تنقد الإيديولوجية المثالية صاحبة المذهب الصوفي. ماذا عن الإيديولوجيا الماركسية النقدية التي نادا بها ماركس و إنجلز في كتابهما (الإيديولوجيا الألمانية) المتجلية بالفهم المادي للتاريخ، هذه النواة العبقرية للمفهوم الجديد عن العالم.؟؟إن جميع الماركسيين الذين بقوا أوفياء لفهم ماركسية ماركس كانوا يدركون أنها ليست إيديولوجيا رومانسية، ليست عقيدة جامدة مجردة، مجموعة بنود إيمان، بمقدار ما كانت إيديولوجيا نقدية مادية. إيديولوجيا علم الأفكار و طريقة استخدامها. إيديولوجيا تحمل في جوفها نقدا جدليا متطورا، إنها فلسفة علم العلوم. أما الإيديولوجيا المثالية الرومانسية فلقد قال فيها إنجلز: (إنما هي عملية يقوم بها من يُسمى بالمفكر و إن على إدراك و لكن إدراك خاطئ. فإن القوى المحركة الحقيقية التي تحمله على النشاط تظل مجهولة بالنسبة إليه و إلا لما كانت العملية عملية إيديولجية. و لذا يضع لنفسه تصورات عن قوى حافزة كاذبة أو ظاهرية). ومن ثم استطرد الفيلسوف المحاضر إلى أن الإيديولوجيا لا توصل إلى الحقيقة، جميعها مهزومة، شاملا كل الإيديولوجيات. كان عليه أن يسمي هذه الإيديولوجيا التي لا توصل إلى الحقيقة ؟؟ ليست المسألة هكذا خبط عشواء، الإيديولوجيا المثالية هي التي يتم تعريفها بأنها تتجلى واضحة عندما يتوقف الوعي عند مرحلة معينة من مراحل تطوره فيصبح وعيا معرقلا للتطور، معرقلا للوعي ذاته، معرقلا للوصول إلى الحقيقة. بخصوص معرفة الحقيقة فلقد قال لينين: ( بأن معرفتنا ناقصة و نسبية، لكنها تكتمل و تتطور في سياق التطور التاريخي) و استطرد لينين بقوله ( علينا أن نبحث و نحلل بأي طريقة تظهر المعرفة من اللامعرفة، بأي طريقة تصبح المعرفة غير الكاملة، غير الدقيقة، أكمل و أدق). وبحسب إنجلز من الحقائق النسبية تتكون الحقيقة المطلقة، و أنه لا توجد حقيقة مجردة فالحقيقة دائما ملموسة. ساعتئذ انفرد أحد المشاركين في الحوار سائلا الفيلسوف : ما البديل لديك، إذا كانت جميع الإيديولوجيات مهزومة ؟ أجاب: بأنه لا يملك البديل. مدعيا أن جميع من كتب في الإيديولوجيا من حسين مروة، مهدي عامل، كريم مروة، الجابري، وياسين الحافظ جميعهم روجوا للإيديولوجيا المهزومة بعيدا عن الفكر المعرفي. شاهرا سيفه مدعيا بأن لينين ليس فيلسوفا. و سواءً اتفقنا مع أفكار لينين أم لا، إلا أن ذلك لا يلغي من مكانة لينين و مساهماته في الفكر و الفلسفة. ألم يكن لينين الوريث الشرعي لفلسفة ماركس إنجلز، ألم يدافع عن النظرية المادية، ألم يكتب في نظرية المعرفة، أليس هو صاحب ( المادية و المذهب النقدي التجريبي) و ( الرسائل الفلسفية) ؟؟. مما لاشك فيه أن الأيديولوجيات تم استخدامها و توظيفها بشكل سيء في الكثير من الأحزاب و الدول، و الأمثلة على ذلك لا حصر لها، و تحديدا عندما تقوم هذه الأيديولوجيا على نفي الآخر و إلغاءه. و لكن هل التوظيف الخاطئ للأيديولوجيا أو استغلالها من هذا الطرف أو ذاك لأسباب سلطوية بحتة هو سبب كاف لرفضها وإلغاءها كليا ؟إن ممارسة العمل السياسي من دون إيديولوجيا علمية و مناهج سياسية و اقتصادية واضحة هي ضرب من الخيال ، فلكل حزب إيديولوجيته الخاصة والتي تشمل السياسة ،الاقتصاد، الثقافة و المجتمع. و لا إمكانية لتأسيس حزب من دون إيديولوجيا، على أن يكون الفيصل بين كل هذه الأحزاب و (الإيديولوجيات) هو انتخابات نزيهة (على أساس قانون انتخابي عادل) و التداول السلمي للسلطة.٠ كاتب سوري

  • Social Links:

Leave a Reply