استعصاءُ السياسي: ماذا بعد المظاهرة في السويداء؟

استعصاءُ السياسي: ماذا بعد المظاهرة في السويداء؟

عمر الاسعد

أي سياسة في واقع إقليمي مُعقّد؟
جاءت الاحتجاجات في السويداء خلال فترة تصاعدت فيها إشارات عودة العلاقات مع سلطات دمشق، ومحاولات إدارة الملفات الخلافية معها من قبل دول الجوار العربي. وإن لم تسر هذه العملية بالسرعة التي توقَّعها من بدأوا بها، لكنها لم تتوقف أيضاً. وضمن هذا الإطار يمكن أن يُفهَم الإحجام العربي عن التعليق على الاحتجاجات القائمة في السويداء أو دعمها، رغم أن قيادات محلية وسياسية ودينية وازنة لم تتردد في توجيه رسائل التطمين والإعراب عن الرغبة في التقارب مع الدول العربية، وعلى رأسها الأردن بما يمثله البلد الجار من عمق تاريخي واجتماعي لأبناء السويداء، إلا أن الرد السلبي رغم ما تتعرض له الحدود الأردنية الشمالية من ضغط عصابات التهريب كان مُلفتاً.

يضاف إلى ما سبق تصاعُد الحرب على عصابات تهريب المخدرات من قبل الأردن، وتنفيذه لعمليات قصف جوي متكررة على قرى في الريف الجنوبي للمحافظة، أوقعت عدداً من الضحايا المدنيين بينهم نساء وأطفال، ودمرت منازل ومرافق لعائلات آمنة. هذه العمليات بحد ذاتها يسودها الغموض من حيث مصادر المعلومات وبنك الأهداف، ورغم أن الأهالي يرفعون الصوت ضد عصابات تهريب وتجارة المخدرات، بالاستعانة بالفصائل المحلية تارة، أو بالأعراف الدينية والاجتماعية تارة أخرى، إلا أن العمليات العسكرية الأردنية شكلت صدمة بما أوقعته من ضحايا في صفوف المدنيين. رغم ذلك، كان من الملحوظ ضبط النفس الذي مارسه الشارع أو حتى القيادات الدينية والسياسية في الرد على الغارة الأردنية الأخيرة، والتي سقط فيها مدنيون بينهم نساء وأطفال في بلدة عُرمان بتاريخ 18 كانون الثاني (يناير) 2024.
كذلك جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتدفع احتجاجات السويداء إلى مقام النسيان الإعلامي، حتى في وسائل الإعلام السورية المحسوبة على المعارضة، ذاك أن الخوف من اندلاع حرب إقليمية شاملة ما زال قائماً في ظلّ تواتر العمليات العسكرية التي تنفذها الأطراف المتصارعة والرسائل المتبادلة بينها من خلال الساحة السورية.
فبينما قصفت إسرائيل في قلب العاصمة دمشق وأطرافها قيادات إيرانية أو من الميليشيات المتعاونة معها، لم تتردد هذه الأخيرة في تنفيذ عمليات استهدفت القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
هذا المشهد الإقليمي المعقّد وارتباطه بجغرافيا سوريا وأحوال السياسة وتنازُع مناطق النفوذ فيها، يدفع احتجاجات السويداء إلى موقع ثانوي من الاهتمام العام والإعلامي، كما أنه لا يساعد الناس في تخيُّل أشكال العمل أو الأطر السياسية الممكنة، في منطقة لا تخرج من حرب إلا لتدخل في أخرى، بينما تنهار دُوَلها وتنخرط كطرف في حروبها الأهلية، وتسود ساحاتها الميليشيات العقائدية.

ماذا بعد التعبئة في الشارع؟
تبدو استعادة شعارات وأهداف وطنية جامعة، والتجمُّعات المهنية التي ظهرت خلال احتجاجات محافظة السويداء، بعضاً من النقاط المهمة، إضافة إلى وضوح بعض المطالب السياسية بالتغيير والانتقال الديمقراطي في إطار مرجعية القرارات الدولية، وهو ما يمكن اعتباره إطاراً جامعاً لقوى الحراك، فضلاً عن الشعارات المطلبية ذات الامتداد الوطني مع من هم خارج حدود السويداء الإدارية.

إلا أن المزاج الناشطي الذي يستطيع الحشد في الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يخشى الذهاب خطوة للأمام نحو التنظيم ووضع البرامج القابلة للتنفيذ والدخول في تحالفات ومفاوضات وفرز الأعداء والخصوم والحلفاء، وصولاً إلى طلب السلطة صراحةً بوصف الوصول إليها هدفاً ووسيلة للتغيير؛ هذا المزاج يبقى عقدة أساسية في الربيع العربي، وربما في موجة الاحتجاجات العالمية التي شهدتها ساحات العالم خلال العقد الفائت، من «احتلوا» في الولايات المتحدة إلى «الليل وقوفاً» في فرنسا، مروراً بساحات العواصم العربية، وليست احتجاجات السويداء استثناء في هذا.

يُضاف إلى ذلك، في سياق الوضع الإقليمي وأزماته السياسية وتركيبته الاجتماعية، خطرُ الاستسلام للبنى الأهلية وما تُمثّله بوصفها المُعبِّرَ عن المجتمع، وهذا ما كانت توافقت عليه قوى متعددة في المعارضة منذ 2011 تطبيقاً للرؤية الشعبوية الكارثية القائلة بضرورة «القرب من الشارع والسير خلفه».
تجريبُ المُجرَّب في السويداء اليوم لا يقل خطورة، وهو إن كان لا يُهدّد بالجهاديين، فإنه يعوّق تحسين الحال ويَحولُ دون نقله خطوة إلى الأمام

  • Social Links:

Leave a Reply