حِرشُ هابيل..

حِرشُ هابيل..

نجم الدين السمان

لا أعرف.. إذا كنتُ حياً أو ميتاً؟!.
كلُّ ما أُحسُّ به الآن.. عبورُ شيءٍ فوق أصابعي؛ ومن رهافتها.. أتوقّع بأنها نملة.
بدأتُ أُحِسُّ بضوءِ شمسٍ شحيح.. يلمَسُ أجفاني المُتورِّمة؛ ثم.. يختفي؛ ثمّ.. يعود.
أسمع حفيفَ أشجارٍ.. ويلمس مساماتي هواءٌ طريّ.
جسدي مُتكوِّرٌ حولَ نفسه.. كما لو أنه صخرةٌ؛ لكنها.. مثل إصبع طبشورٍ سَحَقَهُ حذاء ثقيل؛ لا.. لم يكن حذاءً؛ كان جزمة عسكرية.
ها أنا ذا.. أستعيد ذاكرتي شيئاً فشيئاً.
أسمع الآن.. حواراً بين صوتين؛ ربما.. على بُعدِ أمتارٍ مِنِّي:
الصوت الأول: – هل تأكدتَ بأننا قتلناهم.. جميعهم؟.
الصوت الثاني: – نعم.. سيدي.
فترة صمت.. يعود بعدها الصوت الثاني.. ليسأل:

  • هل ندفنهم سيدي؟.
  • ليس لدينا وقت؛ اتبعني.. إلى الجهة الغربية من حرش الصنوبر.
  • حاضر.. سيدي.
    أسمع صوتَ خطواتٍ تبتعد:- أسرِع.. لدينا مُعتقلون آخرون.
  • هل سنُرسلهم إلى دمشق.. سيدي؟.
  • لا.. جاءتنا الأوامر بتصفيتهم؛ سنتركهم للذئاب وللوَاوِايَّات.
    صوت ضحكاتهما يبتعد.. فأخشى التنفُّس بعُمق؛ ربما.. سَمِعَا شهقتي؛ وسيعودان بالتأكيد.. ليخسرا رصاصةً واحدةً فقط في رأسي.
    ينتفض جسدي.. حينَ تعبرُهُ تيارات ألمٍ من قشرة رأسي إلى أصابع قدميّ؛ أغيب عن الوعي شيئاً فشيئاً؛ كل ما أُحِسُّ به.. أنّي لم أمُت بَعدُ؛ وبأنّي لست حياً.. في الوقت ذاته.
    هل كان.. كابوساً؟؛ هل كان فيلمَ رُعبٍ؟!.. ربما؛ وحين استفَقتُ بعدَ ما لا أعرف من الوقت؛ أحسستُ بأصابعَ تلمسني.. كأنما تُلصِقُ ما تبقى مِنِّي.
    أسمعُ الآن.. صوتاً نسائياً؛ يسألني هامساً: – هل تتذكّر اسمَك؟.
    أحاول أن أفتح أجفاني لأراها.. فلا أستطيع؛ وأن أفتح فمي.. فلا أستطيع.
    لكنّي أحسستُ بأنها تنحني أكثرَ نحوي؛ أسمعُ حفيفَ فستانها على العشب؛ أحِسُّ بأنفاسها تقتربُ دافئةً.. وفيها رائحةُ كستناءٍ على جمرٍ.. في شتاءٍ بعيد.
    تهمس: – سَمِعنَا طلقاتهم.. على دفعتين؛ تأكّدنا أنهم قتلوا كلَّ من اعتقلوهم على الحواجز منذ شهر؛ لم أستطع النوم؛ صعدتُ مع ضوء الفجر إلى حرش الصنوبر؛ زوجي لم يَعُد إلى البيت منذ أسبوع؛ وابنُ عمِّي منذ أسبوعين؛ يا إلهي.. قتلوهم جميعاً؛ رأيت ابنَ عمّي مذبوحاً من الرقبة؛ وبقيتُ أبحث عن زوجي.. لم أجده؛ وحينَ يئِستُ.. سمعتُكَ تئِنّ؛ أنت لستَ من ضيعتنا؛ ربما.. كنتَ عابر طريق؛ واعتقلوك على الحاجز؛ احمِد رَبَّك.. حولكَ أكثر من سبعين جثة؛ وأنت وحدَكَ الحَيّ.
    سمعتُ بكائها.. أحسستُ بعينيها ترصدُ ما حولنا من جثث؛ عادَت.. فانحنت فوقي وهمسَت تسألني من جديد: – هل تذكرتَ اسمَك؟.
    كأنّي أعرف هذا الصوت منذُ ما قبل التاريخ.
    خرَجَت من فمي تَمتمَات أنينٍ دمويّ؛ وكنتُ أظنُّ بأنّي أنطِقُ باسمي.
    همست المرأة: – ماذا قلت؟!.
    يا إلهي.. كم أعرِفُ هذا الصوت.
    أحسستُ بأنها تُدلِّك أصابع يدي اليسرى.
    كأنّي أعرِفُ هذه الأصابع.. أيضاً.
    همسَت المرأة:
  • طيّب.. سأسألك؛ حاول أن تُجيب بتحريك يدِك؛ جَرِّب؛ إذا حرَّكتها نحو اليمين.. معناها: نعم؛ وإذا حرَّكتها نحو اليسار.. معناها: لا؛ جَرِّب.. أرجوك.
    خرج أنينٌ دمويٌّ آخرَ.. من بين شفتيّ: – طَ.. يِّ.. ب.
    همست مرة ثانية: – ماذا قلت؟.
    وحين لم أستطع حتى الأنين.. هَمَسَت هي:
  • اسمي: سوريا.
    كنتُ أحاولُ أنين صوتي.. كنتُ سأقول لها: – عاشت الأسامي.
    لكنّها همست: – أنا من هنا؛ من القرية.. حيثُ مقامُ هابيل.
    كنتُ سأخبرها.. بأن لي زوجةً لها نفسُ الاسم؛ ولم أستطع؛ وبأنّ لي طفلاً اسمه: بردى؛ وطفلةً اسمها: شام.. ولم أستطع؛ كنتُ سأقولُ لها.. كيف التقيتُ زوجتي في حارات الشام؛ كيف.. خطفتني إليها؛ كما يخطِفُ الفراشةَ.. الضوء؛ وكنت سأقول لها.. كم يُشبه صوتُكِ.. صوتَهَا؛ ولم أستطع؛ كنت سأقول لها.. وأصابعُكِ تُشبه أصابعها؛ ولها نفس رائحة الكستناء فوق جَمرِ شتاءٍ بعيد.. ولم أستطع.
    حاولت أن افتح أجفاني.. لأراها؛ ولم أستطع؛ كأنهم خاطوا أجفاني وشفتيَّ بخيوط الألم.
    همسَت تسألني.. من جديد:
  • هل سَمِعتَهُم يُنادونه.. باسم: هابيل محمد؟.
    وحين حاولتُ أن أُحرِّكَ كفّي نحو شمالٍ أو يمين؛ لم أستطع.
    كنت.. سأقول لها؛ كأنِّي أعرف هذا الشخص؛ كأنِّي سمعتُ اسمَهُ يتردّد كالصدى بين أشجار حرش الصنوبر.. قبلَ جولةِ تعذيبه؛ كأنِّي.. رأيتُ الرصاصَ من حولِهِ.. حين بدأوا المجزرة؛ بل.. كأنِّي رأيته؛ يتكوّم حول نفسه مثل صخرة قبل تشظِّيها.
    همَسَت قُربَ أذني: – لم أجَدِهُ بين الجثث.. هنا؛ ولا بين الجثث.. في الطرف الآخر من حرش الصنوبر؛ قُل لي بأنّه.. قد نجا؛ قُل لي.. بأنهّم قد عذَّبوه؛ لكنه.. نجا؛ وبأنهم.. حين أطلقوا الرصاص احتمى بالأجساد المُتساقطة من حوله.. فنجا؛ قُل لي بأنّه لا يزال حيّاً.. لأحبَّهُ ما تبقَّى من عمري؛ وكأنّي أُحِبُّهُ.. من جديد.
    ثم أخذتها نوبةُ بكاءٍ صامتٍ.. مقهور؛ وغَمَرَنِي عَرَقٌ باردٌ من مَفرِقِ رأسي إلى قدميّ.. ارتعدَ جسدي كأنها الحُمَّى.. تتنازَعُنِي؛ تكويني بالنار.. مرَّةً؛ وبجبالٍ من جليد؛ ثمّ خَفَّ جسدي.. لم أعد أُحِسُّ به؛ سوى.. أن أصابعها لا تزالُ تلمسُ كَفَّي.
    كيف ألومُهَا.. لأنها لم تجِدهُ بيننا؛ لماذا أُعاتِبُها.. إذا لم تتعرَّف عليه؛ لو أنّي نظرتُ إلى نفسي الآنَ في المرآة.. فربما لن أعرفها؛ حتى أنِّي تحت تعذيبهم الوحشي.. قد نسيتُ اسمي.
    أحاولُ الآن.. بما أستطيعه لأجلها؛ أن لا أموتَ الآن.. بعد أن وجدتني؛ حتى تجِدَهُ.. من جديد.
    *- من مجموعتي القصصية “حرش هابيل” والحِرش في الآرامية/السريانية هو الفابة الكثيفة؛ وحرش هابيل يقع في جبال القلمون قرب الزبداني وفيه مقام هابيل وضريحه حيث يتداول السوريون عبر العصور بأن قابيل قد قتل أخاه هابيل في “مغارة الدم” على سفح قاسيون المُطِلّ على دمشق!.

  • Social Links:

Leave a Reply