م خالد نعمة
عندما استقل بهيج الشامي سيارة الأجرة متوجهاً رجوعاً من بيروت إلى دمشق، لم يجل في ذهنه إلا أمر واحد، وهو كيف يستكمل أوراقه، الأوراق التي سيحملها معه إلى ذلك البلد البعيد الذي حصل على تأشيرة السفر إليه.
كان قد رتب الأوراق اللازمة لسفرته، عندما جاء من يخبره أن ورقة إثبات زواجه ضرورية للغاية، كي يمكن لزوجه أن ترافقه في سفرته، وكان لديه عقد زواج شرعي، لكن لم يخطر في باله أن يصدقه من وزارة الخارجية قبل مغادرته سوريا إلى لبنان، إذ من أين له أن يعرف أن البلدان الأجنبية تتمسك بالقشور والشكليات.
ولذلك، كان عليه أن يعود إلى مسقط رأسه، الذي لم يعد مدينة طبيعية كبقية المدن بعد أن صارت مقطعة الأوصال بحواجز لعساكر وميليشيات لا عد لها، وبعد أن طرقت حروب الإخوة الأعداء الدامية مناطقها وأحياءها.
حمل الورقة بين يديه طوال الطريق بحرص شديد، متذكراً أجمل اللحظات التي جمعته بزوجه بينما هو يدقق فيها من حين لآخر، كي يتأكد للمرة الألف إن كانت كل الأختام والتواقيع موجودة عليها، لأن غياب أحدها قد يخلق له ما لا يعلم من العثرات والمصائب والتنكيدات.
بعد أن عبرت السيارة الحدود السورية اللبنانية، وغير بعيد عن جديدة يابوس انتصب حاجز عسكري كانت سمعته غير الحسنة قد طافت أرجاء النواحي، وكان رتل من سيارات مختلفة الأشكال قد توقفت عنده من أجل التفتيش والتحقق من هويات الركاب، وضمنه انتظمت سيارة الأجرة، وتقدمت الهوينى بمقدار ما سمح عناصر الحاجز للسيارات بالتقدم.
مر الوقت ببطء شديد هناك، وأصاب الملل الشديد بهيجاً، الذي لم يجد تسلية غير تقليب وثيقته الناقصة التصديق بين يديه إلى أن وصلت سيارته إلى قرب الحاجز، فارتخت يسراه إلى جانبه بحركة عفوية، آخذة معها وثيقته الثمينة لتخفيها عن الأنظار.
حركة بهيج لفتت نظر أحد العناصر، فاقترب مسرعاً من السيارة، وأشار إليها كي تتوقف على البانكيت الترابي يمين الطريق.
كان العنصر طويل القامة عريض المنكبين، مفتول العضلات ومكشوفها، ملتحياً، وعيناه مستورتان بنظارة عاتمة، وعلى ذراعيه وشم لسيف كتب فوقه: لا سيف إلا ذي الفقار، ولا فتى إلا علي، يبان من تحت كنزة زيتية بنصف كم، ويرتدي سروالاً مموهاً، بينما ينتعل حذاء رياضياً أبيض اللون، وكان أشبه ما يكون بمصارع كراكوزي من هؤلاء الذين يراهم المرء على حلبات المصارعة الأمريكية الترفيهية.
سأل العنصر بهيجاً:
- أنت… ما الذي تحاول أن تخبئه كي لا أراه؟
رد بهيج محاولاً بصوت مرتجف: - لا شيء لدي مما يستدعي التخبئة؟
قال العنصر بغضب: - بلا، لديك… ماذا يوجد في يدك اليسرى؟
أجاب بهيج محاولاً أن يتمالك نفسه: - إنه وثيقة زواج.
صرخ العنصر ببهيج بصوت مهدد: - أرني إياها فوراً.
مد بهيج يده، وأعطى الوثيقة للعنصر، فأخذها منه، وتأملها، ثم سأله مستفسراً: - ماذا قلت لي؟ ما هذه الوثيقة؟
رد بهيج بخوف: - وثيقة زواج.
هاج العنصر، وقال بمنتهى الغضب: - أ تكذب عليَّ يا ابن الكلاب… اقرأ بصوت عال ما هو مكتوب فيها.
تلعثم بهيج، وأخذ يقرأ وثيقة زواجه بتأتأة: - عقد نكاح بين…
انفرجت أسارير العنصر، قال بأعلى صوته: - كفى يا ابن الشرموطة… هذه الورقة اسمها عقد نكاح، لا وثيقة زواج. والله لولا انشغالي بغيرك لكنت قد أريتك ما الفرق في الواقع بينهما… انقلع من وجهي قبل أن أسوِّد وجهك وأيامك.
عند هذه الكلمات، انطلق سائق سيارة الأجرة براكبه دون تلكؤ، خوفاً من أن يعيد العنصر النظر في قراره بتمريرهم، وبعد بضع مئات من الأمتار قال لراكبه: - أصلحك الله، هل كان من الضروري أن تمزح مع العنصر بالقول إنها وثيقة زواج… إنه نكاح مكتمل الأركان يا صاحبي… نكاح… ألا تفهم؟
Social Links: