المسألة السورية ومرايا الجيبولتيك الدولي

المسألة السورية ومرايا الجيبولتيك الدولي

د جمال الشوفي

الجزء – ١
ثورات الربيع العربي

فقد ضربت ثورات الربيع العربي بنى الاستبداد في جذوره بالعمق، ولم تقف عند بعده السياسي، بل في مقومات وجوده العام التاريخيّ والحاليّ، كما وتجاوزت محليتها لاستنفار عالميّ بدا وكأنه تغير في استقرار المنظومة العالمية بقطبيتها الوحيدة، ما حمل الجميع الوقوف أمام استحقاقات الحاضر المتمدّد من ثورات شعبية عارمة وفياضة لم تهدأ وتستقر لليوم، ولم تتضح نتائجها كليةً بعد.
وحيث لا يمكن تفسير هول العنف المقام في مجزرة وكارثة كبرى، وكأنها حرب عالمية ثالثة تكثفت في سورية، إلّا بتغوّل آليات القتل المتعددة على إيقاف مد الثورة وتحجيمها وجعلها وبالٌ على شعوب المنطقة، التي تحاول الخروج من دول الاستبداد والتسلط والهيمنة لمصاف الدول العصرية دستوريًا وقانونيًا ومؤسساتيًا، سوى بدفاع شرس للمصالح المادية المحلية والإقليمية ومن خلفها العالمية، التي هددتها ثورات الربيع العربي، وخاصة السورية.
الأيديولوجيات الآيلة للسقوط والانهدام التي هُددت في نمطية وجودها تدافع عن نفسها بكل ضراوة، حتى أنه لم يعد يوجد مبرر سياسي لعنفها سوى التدمير وفرض سياسة الأمر الواقع، وهو ذاته ما كانت قد أشارت له حنّة أرندت في كتابها “في العنف” من حيث الأثر الكبير اللازم إلقاء الضوء عليه في ظاهرتي العنف والعنف السياسي، والذي نادرًا ما كان موضع تحليل أو دراسة، خاصة مع أنه ذو دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية لتاريخ البشر.
العنف المرتبط بالأيديولوجيات الشمولية الاستبدادية “التوتاليتارية” من حيث الجذر، يكمن في أدوات الحرب المولدة لأقسى درجات العنف؛ إذ تطورت أدواته تقنيًا إلى درجة، لم يعد من الممكن معها القول بأنّ ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية.

الفضية السورية

في أصل الكارثة العنيفة السورية، ثمة رؤى متعددة يمكن أن تتناول المسألة السورية. لكن وبتحديد أولي، يمكن القول بأن الكارثة السورية نتيجة لمنطقين (المثنى من منطق)، لذاتيتين متغوّلتين في التطرف أحكمتا القبضة على مسارها:

  • النظام العالمي بقطبيته الوحيدة والمعوّلمة ومنظومتها المتوحشة المادية والنفعية، وما أفرزته من سياسات متوازية في المنحى الجيوسياسي (الجيوبوليتيكي) التي عادت بقوة للتشكل من جديد في مسارات العولمة بدءًا من ثورات الربيع العربي عامة وسوريا خاصة.
  • استفحال التأخر التاريخي العربي وتجلياته في كل النواحي السياسية والفكرية والمجتمعية، الدينية منها والإثنية والطائفية والحزبية السياسية المعارضة والموالية والثقافية، أيضًا كمنتج عام. والمتمظهر في دول قهرية الطابع وتسلطية الهوية، من دون موضوعة الدولة الحديثة والعصرية، التي كانت هدف الثورات بالمبدأ.. فكان أن شارك الجميع في أصل المسألة ونتائجها الكارثية لليوم.
    ترنّح المسألة الوطنية اليوم وكارثيتها المحققة، لا يقف عند مفردة واحدة في عالم السياسة المتغيرة بشكل وحشي وهمجي، فالتغيير الديموغرافي والتهجير والقتل بالمجان وعجز المنظمات الدولية، التي بنت أساس وجودها العالمي على الحريات والحقوق الإنسانية، بات فاضحًا. وبالتحديد اكتفائها بالتوثيق من دون الفعل المباشر للانتصار لمظالم الناس وحقهم في تقرير مصيرهم، وكذلك عجز المعارضة الوطنية السورية بتنوعها وتعدد مشاربها وأيديولوجياتها عن استكمال مقومات المشروع الوطني، وارتباطها بمفاعيل السياسة الدولية والإقليمية وركونها إليها، ونزعتها التبريرية هو بالضرورة ما يجب نقده وتفنيده؛ وهو ما يحمله هذا العمل في طياته بوجهه السياسي والنقدي، تاركًا مساحة النقد المعرفية والفكرية لعمل آخر يكمله ويطرح المسألة من زاوية ورؤية أخرى.

فشل الحل العسكري

في المبدأ، الهزيمة العسكرية لثورات الربيع العربي عامة وخاصة السورية في راهنها اليوم، لا تعني أبدًا أن المجتمعات ستهزم سياسيًا ومعرفيًا، وهذا مجال واسع يجب الغوص فيه بعمق في مدلولاته ومؤشراته، بل هذا ما يجعل النقد ضرورة اللحظة الراهنة من مرحلة التشكل في اتجاه الدولة الوطنية المتعثرة لليوم، حيث لا يمكن الركون لسبب في شكل الكارثة المحلية وردها فقط لسبب محلي بالاستبداد والدولة التسلطية، مع أنها المولد الرئيس لكل أشكال العنف والتدخلات المباشرة في سورية. كما أنه من غير الممكن رد المسألة لعجز المعارضة السورية وتحميل جهة فيها إسلامية أو علمانية أو عسكرة الثورة مسؤولية منفردة في الهزيمة العسكرية، بل ثمة مجموعة من العوامل المتكاملة قادت للنتيجة الكارثية التي باتت تعيشها سورية ومدى تغوّل منظومات التسلط في شعبها وحضارتها.
سورية الثورة، التي بدأت كمشروع وطني ثوري نزّاع نحو العصرية والحداثة، تقع اليوم بين جملة من آليات التحكم والهيمنة تفقدها قرارها الوطني ومشروعها السياسي في الدولة الحديثة. وحيث لا يمكن الاكتفاء بسبب وحيد؛ لتفسير المسألة السورية يرمي بكامل المسؤولية على جهة من دون غيرها، فتبرز مقولات المؤامرة الكونية، كما أسلمة وعسكرة الثورة، كما الخذلان العالمي وغيرها… مجرد حالات تبريرية تعفي الذات من رؤية كامل المشهد السوري وكارثته الإنسانية والشعبية على بوابة القرن الواحد والعشرين.
عليه، كان لابد من الغوص عميقًا في صورة العالم اليوم وسياساته وتوجهاته وآليات صراعه، بالتكامل مع عوامله السياسية الداخلية. ما يستوجب البحث بالأسباب المحلية والدولية، وهو ما يعني سياسيًا بالتحديد:
العالم اليوم وشكل نظامه وحيد القطبية بصيغة العولمة المحدثة ليست منظومة واحدة منسجمة، ولسنا سوى سلة تفريغ أزماتها، لا سيّما على مستوى الصراع العالمي الجيوبوليتيكي على قطبيته المتجددة، ضمن منظومته الراهنة وخارجها.
نقد حوامل المشروع الوطني السياسية والأيديولوجية المتأخرة سياسيًا، سواء المعارضة الكلاسيكية أو الموالاة والسلطة المستبدة، وبالضرورة نقد “ثقافة الشماعة”، بما هي نموذج تحميل الطرف الآخر كل المسؤولية وإعفاء الذات، ودلالات العجز السياسي التي تحملها كل جهة للأخرى، ومنها الخذلان العالمي.
فتح حوار مفتوح وشاق حول الفشل العام بما فيه العمل المعارض السياسي الديمقراطي الكلاسيكي و/أو الإسلام السياسي، وهذا مجال مفتوح على الدوام بمتغيراته ودلالاته، وأهمها مقدمات وضرورات المشروع الوطني وعقده الاجتماعي الممكن

  • Social Links:

Leave a Reply