د احمد داوود
هل تمنيتم يوما ً أن تتعرفوا إلى تدمر كيف كانت بيوتها و أسواقها و حياة الناس فيها ؟
إننا لن نجد أصدق من زنوبيا ابنة تدمر لتصف لنا مدينتها التي تسميها (مدينة الشمس) .
(( في مدينتنا الرائعة نستطيع سماع جميع أنواع اللغات علما ً بأننا لا نعرف كثيرا ً منها , لكننا نفهم بشكل جيد سكان جنوب سوريا تماما ً كما نتفاهم مع سكان شاراسن , و كذلك الحال بالنسبة لسكان أنطاكية كما هي الحال بالنسبة لسكان بترا , و كذلك الحال بالنسبة لسكان شرقي النهر العظيم (الفرات) فليس هناك من اختلاف كبير بين الآرامي و السوري و العربي . و ضمن عائلتنا, و هذا ما يطلقه والدي على وسطنا , فإننا نتفاخر بمعرفة اللغات الأجنبية كالإغريقية و اللاتينية)) .
إن هذه الحقيقة لا يعرفها إلا أبناء المنطقة من عرب أو سوريين الذين يدركون جيدا ً أن آرام بن سام بن نوح لم يخترع لغة ً لتدعى آرامية , و أن أباه سام لم يخترع لغة ً لتدعى سامية , بل كان سكان الوطن العربي القديم كله يتكلمون لغة ً واحدة ً بلهجتين رئيسيتين هما السريانية و العرباء التي هي الفصحى .
و من المحال أن تسمع مثل هذا القول من رجل من الغرب تربّى منذ الزمن البيزنطي إلى اليوم على عدم الاعتراف بالعربية أو السريانية , و الذي اقتصرت معرفته بتاريخ المنطقة على عشائر التوراة البدوية الرعوية المتخلفة , فجعل كل عشيرة من عشائرها شعبا ً خاصا ً له لغة خاصة !! .
أما عن تدمر و أسواقها فتقول زنوبيا :
(( كان هناك أسبوعان لا يزالان يفصلان موعد زفافي . و لقد اغتنمت فرصتي فأمضيتها في الأسواق المقامة تحت الأبواب الرئيسية لمدينتنا , حيث يعرض فيها التجار من نفيس البضائع الشيء الكثير.
و لقد أحببت كثيرا ً التنزه وحيدة بملء حريتي في مدينة الشمس هذه المرصعة بكتل الرخام الملون من السماقي إلى الأعمدة ذات اللون الذهبي إلى المعابد المزينة بألواح البرونز , إلى طرقاتها الواسعة الممتدة حتى واحاتها و بساتينها الصغيرة حيث كنا نذهب إليها كل مساء لابتياع مؤونتنا من الدراق حتى المشمش , و من الباذنجان حتى القرع و اليقطين , و نتبرد بالقرب من ينابيعها متأملين ألوان الجبال الزرقاء التي تغلق الأفق فوق الأسوار .
و منذ وقت طويل كففت عن النظر إلى التماثيل و أنصاف التماثيل و المنحوتات البارزة من جدران المعابد .
تناسيت أقوالي لأذينة و أغرقت يدي في الحرير الصيني , و الحلي الفارسية , و الأقمشة الهندية , و الأثواب الاسكندرانية , و الحرير الدمشقي. و تأخرت في المحال حيث كانت تعرض المجوهرات البابلية , و عقود اللؤلؤ, و الأكواب المنقوشة , و مزهريات بألوان قوس قزح . و ولجت إلى داخل محلات الأقباط حيث كانت تباع علب للمراهم مصنوعة من الخنافس ذات أشكال سحرية , و كرات من العقيق و تبر الذهب , و البخــــور . و أردت شراء كل شيء و حمل كل شيء من الصندل إلى أحزمة الخصر . لقد وجدت نفسي غير قادرة على مقاومة كل هذه الإغراءات .
و كان أغلبية هؤلاء التجار يعرفونــني مذ أن كــنت صغيرة , و لكني لم أعد في نظرهم ابنة سيد التجار , بل أصبحت أميرة المستقبل لتدمر , فأحاطوني بالهدايا الكثيرة و الجميلة .
و ذهبت أيضا ً للتنزه في داخل الأحياء الأكثر شعبية , هناك , حيث تعرض سلاسل من غصون الصفصاف تنوء بأحمالها من الفليفلة الحمراء إلى اليقطين و التين و البلح .
و يعبق الجو بالدخان الأزرق المنبعث من قطع اللحم المشوي , المــمزوج برائحة الكـــمون و بالعـــطور , و برائحة الزلابية المقلية بالزيت الحامي . و قابلت موزعي الماء بأرجلهم النحيلة , و العبيد سود البشرة من سواحل البحر الأحمر يدفعون أمامهم النعام , و مصريين يقبعون في بعض الزوايا ليقوموا بألعابهم السحرية , و ببدو , و يافعين يعملون في قص الشعر , و آخرين يقومون بالوشم على البطن برسوم شتى, و (الحكواتية) , و حواة الأفاعي , و فتيات الهوى بعيونهن الكحيلة , و رأيت بعض الجباة يمتطون بغالهم فاتحة الألوان بذقونهم الطويلة المعتنى بها جيدا ً , حيث دهشوا لدى التعــرّف عليّ , فكانت نظراتهم شرهة , و أخذوا ينادونني بــ (غزالة) .
و على مبعدة من ذلك رأيت حوانيت الحدادين الذين يطرقون مختلف الأدوات المعدنية المتوهجة بالألوان القرمزية , ثم يضعونها بأوعية الماء الذي يصفر .
و أمضيت قرابة ما بعد الظهيرة بأكمله في التسكع بسوق الصوّافين حيث يغسلون الصوف بعد جزّه , و يصبغونه بصوفه و جلده بعد إخراجه من دنان الألوان , فيمدونه ليجف بعد أن يكون مبللا ً بسوائل الأصبغة المختلفة .
و قبل عودتي إلى منزلي اختلطت للمرة الأخيرة بمرتادي الشارع المستقيم, و كان عليّ اجتياز عدة أزقة تتميز كل منها بروائحها و عطورها المختلفة و جدرانها الطويلة البيضاء, حيث شاهدت بعض المارة الصامتين أو الأطفال اللاهين الذين يحملون على رؤوسهم سلال الخبز لمنازلهم , هذه المنازل المطرزة بالعيــون الوحيدة , و برؤوس مســامير ضخمة في أبوابها .
كان الوقت وقت التسكع , فالجو يعبق بالحرارة الثقيلة , فكانت المدينة بأجمعها تتمازج في رنينها, فمن أحاديث خبيثة ثرثارة هنا, إلى نقاشات حادة هناك , إلى ضحك و قهقهات , و شجارات سرعان ما تخفت . فشعبنا يعرف متعة الشوارع , و يتمتع بحب المناقشات , حيث أن كل فرد فينا قد ورث تركة أجداده الآراميين بحبهم للمداولة في أسعار السلع , و نشط هذا الحب عن أبناء عمومته من الفينيقيين ملوك التجارة و أمراء البحار , حيث أنه ينفعل بذات الحدة للدفاع عن شرف مرضعته , وتختلط الأعراق , و الألوان , و اللغات في مدينتنا , فمن إغريق إلى آسيويين يختلطون بنا نحن العرب القادمين من نجد و من حوران , و الأرمن يختلطون بالفرس , و الأحباش بالمصريين . إنها تدمر , بدون قادة الرومان و جيوشهم , إنها مدينتي الحبيبة كما حلمت بها في ثورات طفولتي ))
Social Links: