الفيس بوك بين المقهى والحانة

الفيس بوك بين المقهى والحانة

هيفاء الحاج حسين
نمنمات سورية


“إذا أردت أن تتخلص من محبتك لشيء انغمس فيه حتى القطرة الأخيرة”.
وها إني انغمست في الفيس للدرجة التي أجدني فيها أرغب في الهروب منه.
لقد استعرضت أفكاري، واهتماماتي
حصلت على صداقاتٍ كثيرة في زمنٍ قياسي
تبادلت خصوصياتي مع الآخرين، تقبلت الاختلافات بيني وبينهم..
أحببتهم واستنزفت الكثير من الوقت للتعرف على عوالمهم مثلما فعلوا هم أيضاً.
وبعدما كنت أراه شرفةً على العالم صار يبدو كمقهى شعبي، بل أشبه بالحانة المزدحمة بالضجيج
أحاديث ومهاترات
الكثير من الشعر والأدب -الذي يكتسب قيمته من كون المنبر متاحٌ للجميع-
مناظراتٌ سياسيةٌ عقيمة
وتنهداتٌ تصّاعد من قلوبٍ لم ينصفها الواقع
صيحاتٌ تعلو هنا وهناك
آلامٌ معروضة على الجدران تنتظر لمسات التعاطف.
دموعٌ تملأ كؤوساً في ليل الحزانى
ضحكاتٌ رقيعة
سبابٌ وشتائم بين فرقاء
مكانٌ لا يتوقف بابه عن الأزيز إثر دخول وخروج الفيسبوكيين.
وهناك الكثير من الأدخنة والأبخرة، والقليل من الانقشاعات.
الأجساد ترتطم بالأجساد.
خليط رجال ونساء ما بين حشمةٍ وما بين رغباتٍ مضلّلة وانتهاكٍ متحَدي لكل المحرمات.
وفي خضم كل هذا ثمة حبوبٌ مسكنة يتعاطاها الكلّ
تسقط في كؤوس أوقاتهم التي يقضونها فيه من غير أن يكون لهم أن يرفضوا تناولها.
شيءٌ أشبه بالمخدر الذي يجعلك تعتقد بأنك موجود
بأنك تحارب
بأنك لست أقل من شهيد مات دفاعاً عن الوطن، ولا أكثر من نقطةٍ خضراء.
وبأنك استعدت صوتك المسروق منذ الأزل
الكل يشكو نقص الأوكسجين في هذا المقهى (الحانة) ويملّ من صوت الضجيج.
يهربون منه لبعض الوقت، ويعودون إليه بخفّي حنين لإدمانٍٍ ما استطاعوا الخلاص منه، إذ لابديل آخر في الخارج حيث البرد القارس و”الأخ الأكبر” يترصد الأنفاس
هناك لا صوت لنا سوى لهاث أنفاسنا وراء لقمة العيش
وكل طريقٍ نقطعها توصَدُ خلفنا أبوابٌ حديدية
لا رجوع..
تقدَّم!
لا خيارات أمامك، وانتهز الفرص المتاحة
هذا هو العالم الذي رسمه الكبار لك
إما أن تقضي شهيداً
وإما أن تُهمّشَ وتطلِق صيحاتك عبر الافتراضي، كما لو كان لعبةً الكترونية تخال نفسك بطلاً فيها
مع ذلك أراها هناك..
خيالات الثورات التي سُرقت حقيقية، وتنبض بالألم
تتوهج بفصاحة الدماء
كالكشاف ينير لثواني سريعة دروباً جديدةً تختلف عن الطريق المرسومة مسبقاً للشعوب
ضوءٌ يدعونا للمضي خلفه لكننا مترددون، فقد جردنا من زوادة المسير!
وأقدامنا انتزعت عن أجسادنا ورميت بعيداً
سوف نضطر للزحف كي نصل إليها ونستردها
هكذا
رسمت ابتسامتي كطريقةٍ يائسة للدفاع عن وجودي أنا، أنتم المحكومون بالإعدام في شرك اليأس.
اليأس الذي يسمو بنا تارةً، ويُسقِطنا كالخِرق تارةً أخرى.
الفيس بوك بديل الوطن المستلَب، احتياطيّ العائلة، العين الزجاجية، والحنجرة المقتطعة الصارخة.
راضين به كدليلٍ وحيدٍ على وجودنا.
نصرخ عبرَه في وجوههم:
نحن هنا أيتها الوحوش
لن تستطيعي قضم أصواتنا
على الأقل.

  • Social Links:

Leave a Reply