تورات الربيع العربي

تورات الربيع العربي

سعيد ناشد


هُزمت ثورات الربيع العربي التي نشدت الحرية والكرامة بدرجات متفاوتة. أصلًا ما كان للحكماء أن يحلموا بانتصار مظفر لها، أو كما نشتهي، بعد رحلة طويلة من الاستبداد، وفي ظل سيطرة ثقافة معادية للديمقراطية والحداثة. لكن، ألا تعتقد أن الربيع العربي، على الرغم من نتائجه الكارثية، قد فتح بابًا ليس بإمكان أحد إغلاقه، وأنه سيكون خطوة لربيع آخر مقبل لا محالة، أم أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو العودة إلى الاستبداد، وكأن قدرنا أن نبقى ندور في “التاريخ الدائري” الذي حدثنا عنه ابن خلدون؟ (مجلة ميسلون).
جواب:
يبدو أن مجتمعات العالمين العربي والإسلامي ستبقى حتى إشعار آخر تتأرجح بين أتون الفتنة وبراثن الاستبداد، كلما حاولت الخروج من طوق الاستبداد إلا وسقطت في جحيم الفتنة الذي لا يخرجها منه إلا استبداد جديد قد يكون أشد وطأة، وهكذا دواليك ضمن حلقة مفرغة شبيهة بدورات التاريخ الخلدوني كما ورد في السؤال.
لماذا؟
العنصر الأساسي للإجابة يوفره ماكس فيبر أكثر من ماركس. وسأوضح الأمر على النحو الآتي:
قد تكون نوايا ماركس هي الأكثر نبلا بالمنظور الإنساني، طالما أن التفاوت الاجتماعي القائم على مصادفات الولادة بدل القدرات والكفاءات ينمي غرائز الانحطاط، لكن لا ينبغي أن ننسى في المقابل بأن المساواة المطلقة بغض الطرف عن القدرات والكفاءات تنمي الكسل والخمول، وهنا يكمن درس نيتشه. إلا أن وجهة نظر ماكس فيبر الذي استلهم كثيرا من مفاهيم نيتشه، تتيح لنا استحضار منظومة القيم باعتبارها العامل الأساسي في البناء والتنمية. وبكل نزاهة علينا أن نتساءل:
هل يمكننا بناء التنمية داخل منظومة قيم تربط الأرزاق بالغيب أو ضربات الحظ؟
هل يمكننا بناء الديمقراطية داخل منظومة قيم تمجد الطاعة، والجماعة، والولاء، وثنائية الحق والباطل؟
في تاريخ الفلسفة السياسية هناك درسان أساسيان:
الدرس الأول قدمه أفلاطون على النحو الآتي:
ينبغي على رجال ونساء الدولة امتلاك قدر كاف من الحكمة. فمن يرد أن يحكم الآخرين عليه أن يكون قادرا على حكم نفسه، بمعنى أن يحكم انفعالاته ورغباته، وإلا سيغدو طاغية في شؤون السياسة، وشقيا في شؤون الحياة. في واقع الحال ليس هناك من هو أقدر على حكم نفسه من الحكيم، لأجل ذلك ينبغي أن يكون رجال ونساء الدولة على درجة من الحكمة.
بعد ذلك سيقدم سبينوزا الدرس الثاني على النحو الآتي:
في عصر الديمقراطيات حيث يغدو المواطنون كافة شركاء في الحكم يجب تعميم الحكمة لكي تشمل الجميع، فيما يندرج ضمن آليات التنوير العمومي، أو التثقيف الشعبي، أو النهوض بمستوى الذكاء العام. لذلك فالمواطنة هي شيء نتعلمه كما يؤكد سبينوزا نفسه
: لا نولد مواطنين بل نتعلم ذلك. هنا يمكننا مساءلة أدوار المدرسة ومناهج التعليم. لكنه مقام آخر للقول.
ستكون خلاصة الدروس على النحو التالي:
يجب أن يكون رجال ونساء الدولة حكماء بما يكفي لكي يحكموا أنفسهم، فيتحكموا في انفعالاتهم ورغباتهم بأعلى قدر من المرونة، وذلك حتى يسهل عليهم أن يحكموا الآخرين، لكن هذا كله لا يكفي ! طالما القيم التي يؤمن بها الناس تؤثر، وطالما السلطة تنبع من العلاقات اليومية للناس كما يكشف فوكو، فينبغي أن يكون معظم المواطنين حكماء بدورهم، أو على درجة من الحكمة. هنا لا يتعلق الأمر بالحلقة المفرغة لسؤال أسبقية البيضة أم الدجاجة؟ بل يتعلق بالأمر بعملية إعادة ترميم الأسس الوجدانية للإنسان.
حين يفشل رجال ونساء الدولة في أن يحكموا أنفسهم، ويفشل المواطنون في أن يحكموا أنفسهم بدورهم، وحين تتغول الانفعالات الخطرة، والرغبات الشرسة، لدى الجميع، وقتها تنفجر غرائز التوحش، وتنهار الدول والمجتمعات والحضارات، ويصير الإنسان أشد شراسة من الوحوش الضارية في الأدغال. ولقد رأينا المشاهد التي تدمي القلوب الآدمية. هنا أيضا تكمن إحدى خلاصات الدرس الدراماتيكي لما كان يسمى بالربيع العربي.
في بداية ثورة الياسمين كتب صحفي فرنسي يقول: أيها التونسيون أين خبأتم الإسلاميين؟! غير أن مصائر “الربيع المغدور” سرعان ما صيرت السؤال على النحو التالي: أيها الثوار أين خبأتم الإنسان؟!
هناك معادلة قوية سبق أن صاغها المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد حين قال: “لا يمكن للضحية أن تنتصر إذا لم تتفوق أخلاقيا على الجلاد”. فأين “الضحايا” اليوم من هذه المعادلة؟!
ذلك هو السؤال بالتمام، أيها الضحايا أين خبأتم الإنسان؟ أين خبأتم المرأة والطفل والفنان؟
لكن، من يجرؤ على طرح السؤ
ال حين يكون الجموع في حال هيجان!؟

  • Social Links:

Leave a Reply