زكي الدروبي
تعرضت إيران والمليشيات التابعة لها لإذلال ما بعده إذلال، بعد ضربات إسرائيلية عديدة مستمرة تتصاعد يوما بعد يوم، وكان آخرها قتل كبار قادة الحرس الثوري الإيراني أثناء اجتماع لهم بدمشق.
هذ الاستنزاف الذي تتعرض له إيران أتى في ظرف تاريخي قدمته حماس لليمين المتطرف في إسرائيل على طبق من ذهب، وقد ينعكس إيجابا علينا كسوريين إن لم نستخدم كوقود لصفقة ما.
عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة على مراعاة المصالح الإيرانية، مع خلق توازن بينها وبين المملكة العربية السعودية، وفي عهد كلينتون الديمقراطي، ازداد قربا من إيران لدرجة غض النظر عن تمدد نفوذ حزب الله، ووصوله ليكون أمرا واقعا، وأتى عهد أوباما ليكسر هذا التوازن بشكل كامل لمصلحة إيران، من أجل صفقة النووي، وحينها فشل اللوبي الصهيوني في إيقاف مسار أوباما ومنع الاتفاق النووي، ووجد نفسه أمام هذه الحقيقة، الدور الإيراني الإقليمي المرعي من أميركا.
إن القيام بمغامرة عسكرية كبيرة لتصفية الملف النووي الإيراني أمر لا يستطيعه الإسرائيليون بمفردهم، فهذه المنشآت متوزعة على امتداد الجغرافيا الإيرانية، ومحصنة جيدا، وتحتاج لقدرات لا تمتلكها، لهذا بدأت بعمليات استخبارية لإيقاف سرعة تطور النووي الإيراني، ونعرف الكثير من العمليات الاستخبارية التي استهدفت مفاعلات أو علماء ومهندسين، بالإضافة لمتابعتها الوجود الإيراني في سوريا بدقة، وقيامها بعمليات تدمير أي شحنات سلاح متطور قادم إلى سوريا.
بعد عملية حماس، أتت الفرصة الذهبية للإسرائيليين، فبدأوا باستهداف تدريجي متصاعد لمخازن الأسلحة بغض النظر عن مدى تقدمها.
بعد انكسار التوازن لمصلحة إيران، بعهد أوباما، وشعور السعودية بالغبن، عملت المملكة على إنتاج خط مواز للعلاقة السعودية الأميركية، فبدأ ولي العهد السعودي ينسج علاقات مع الشرق “روسيا والصين”، من دون أن يسيء للعلاقة الأميركية نفسها، وأوضح بأن الخلاف هو مع الإدارة الديمقراطية نفسها، ونذكر الاستقبال الباهت من ولي العهد السعودي للرئيس الأميركي بايدن، الذي افتتح عهده باستهداف المملكة، وغض النظر عن إيران، وهذه العلاقة مع الشرق سمحت للسعودية بالوصول إلى اتفاق هدنة طويلة مع إيران برعاية صينية، توقف بعدها الاستهداف الحوثي للأراضي السعودية.
بعد عملية حماس، أتت الفرصة الذهبية للإسرائيليين، فبدأوا باستهداف تدريجي متصاعد لمخازن الأسلحة بغض النظر عن مدى تقدمها، وللشحنات الجديدة القادمة في سوريا ولبنان، وبنفس الوقت تصاعد تصفية عناصر وقادة هذه المليشيات، فيما عملت إيران ومليشياتها على ضبط النفس والصبر، فالمشروع بالنسبة لهم أهم من الأشخاص، والحفاظ عليه يقتضي تجرع كأس السم مرات عديدة، ونذكر جميعا ما حصل عقب مقتل سليماني.
بعد العملية الأخيرة ومقتل القيادات الإيرانية رفيعة المستوى في دمشق، أصبحت المعادلة تقول إن الاستهداف سيطول أي شخصية عسكرية من هذه المليشيات في أي مكان بالجغرافيا السورية واللبنانية، مهما كان وزنها، وقد أوقع هذا الفعل إيران بحرج كبير، وبحث وزير خارجية إيران بزياراته المكوكية بين دول المنطقة، مستجديا موافقة أميركية على رد محدود غير ذي أثر، لحفظ ماء الوجه فقط.
فإيران غير قادرة على رد كبير عنيف مباشرة من أراضيها، لأن منظومات الدفاع الجوي الأميركية من باتريوت وغيرها، بالإضافة إلى القدرات العالية بالتشويش والحرب الإلكترونية، الموجودة في العراق وسوريا، بمنتصف الطريق بين إيران والإسرائيليين، ستعيق تقدم هذه الصواريخ أو المسيرات، والتصريحات الآتية من أعلى مستوى في القيادة الأميركية تؤكد “أنها بجانب إسرائيل في أي ضربة محتملة”، طبعاً عدا عن القدرات العسكرية الإسرائيلية نفسها، كما أنها لا تستطيع مهاجمة سفارات صهيونية حول العالم، لأن هناك احتياطات أمنية كبيرة حولها، وبفرض أنها استطاعت تنفيذ عملية ضد سفارة الصهاينة في مكان ما من العالم، فهذا سيزيد من إحراجها وعزلتها حول العالم، خصوصاً وأنها لم تستطع إقناع أحد بأن الهجوم الصهيوني كان على مبنى ديبلوماسي، فقد كان السؤال حاضرا دوما، ماذا تفعل كبار الشخصيات العسكرية في الحرس الثوري الإيراني – اثنان منهم برتبة جنرال – في هذا المكان؟
ما حصل هو إخراج لإيران من حرجها الكبير الواقعة فيه أمام شعبها، وأمام جمهورها في محور المقاومة.
حتى الرد من خلال أذرعها سيكون محدودا غير ذي أثر، فالنظام الأسدي قطع الطريق على أي ضربة انتقامية من الجولان، وأصبح الروس على الحدود السورية مع الكيان العدو مباشرة، وحزب الله غير قادر على فتح معركة كبيرة، والمليشيا العراقية التي تطلق البيانات عن عمليات الاستهداف التي تنفذها ضد الصهاينة، لن تستطيع فعل شيء حقيقي على الأرض بسبب القدرات التقنية المتطورة لدى إسرائيل، وسيكون هجومها بسيطا محدودا، بسبب الخوف أيضا من الانتقام الأميركي، كما حصل عند قتلها لثلاثة جنود أميركيين.
ما ظهر من الرد الإيراني “المنضبط” حسب توصيف الخارجية الإيرانية، وما تم إعلانه من قبل الخارجية الإيرانية نفسها، عن إبلاغ الولايات المتحدة ودول الجوار بموعد وتفاصيل الهجوم قبل 72 ساعة من انطلاق المعركة، يؤكد أن ما حصل هو إخراج لإيران من حرجها الكبير الواقعة فيه أمام شعبها، وأمام جمهورها في محور المقاومة، ويؤكد المؤكد بأن كيان العدو مرعيا من الدول الغربية، وهذا واضح من المشاركة – حتى لو كانت رمزية – الفرنسية البريطانية في الدفاع، واعتراض الصواريخ.
هذا الواقع يضعف إيران كثيرا، ويظهر أن كل ما صنعه الملالي من مصدات وواقيات وأذرع في المنطقة لم يكن ذا فاعلية، ولم يحميها، وبقيت وميلشياتها قوة مجرمة تجاه شعوب المنطقة، من عراقيين وسوريين ولبنانيين وفلسطينيين ويمنيين، لهذا ستتجرع إيران كأس السم مرة أخرى، كما فعلت ذلك سابقا مرات عديدة، وستركز على إكمال مشروعها في المنطقة، وتحاول إكماله عبر نقل الفوضى أيضا للأردن، لتكون على حدود إسرائيلية أخرى، لتقوية نفوذها في المنطقة، واعتبارها قوة إقليمية يجب استشارتها بكل صغيرة وكبيرة في المنطقة، وحساب حصتها من خيراتها.
من جهته كان أكبر المستفيدين من هذا الحدث كل من بشار الأسد الذي أثبت بأنه خادم مخلص للكيان العدو، ومنع أي عمليات من الجولان باتجاههم، وخلق توترا غير معلن مع إيران، وبالمقلب الثاني استثمر الكيان العدو بالضربة الإيرانية، وأعاد سرد مظلوميته التاريخية وحشد داعمين له من جديد.
في المقابل يتواصل الحراك الأميركي في المنطقة، بهدف إعادة بنائها لتكون خالصة لها بعد التدخل الصيني الروسي فيها، والتحالف الذي بدأ يتشكل مع الأخطبوط الإيراني وأذرعه، ففي سقطرى تبنى قاعدة أميركية لتكون أقرب إلى الشواطئ اليمنية من القاعدة الأميركية بجيبوتي والتي تعد أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في إفريقيا.
كما كشف تحقيق استقصائي لمنصة إيكاد، عن زيادة بطول المدرج الرئيسي في القاعدة العسكرية الإماراتية الموجودة في جزيرة سقرطى، ليصبح طوله 3 كم، أي أنه – حسب التحقيق – “بات قادراً على استيعاب طائرات الشحن العسكري الأميركية الأكبر من طراز C-6 Galaxy وقاذفات B-1 Lancer الإستراتيجية، وهي القاذفات ذاتها التي قامت بهجمات انتقامية مؤخراً في سوريا والعراق”.
برأيي إن إعادة صياغة التحالفات في المنطقة، وتحجيم الدور الإيراني بما يضمن المصالح الأميركية الإسرائيلية، قائم ومتسارع، وأقول إنه تحجيم وليس إنهاء بشكل كلي، لأن دولة إسرائيل وإيران لا تستطيعان العيش بدون عدو خارجي، وستبقى شعارات المقاومة والممانعة مرفوعة، وسيبقى العدو المحتل يقتات من هذا الصراع، ولأن الولايات المتحدة لا تستطيع ضمان المنطقة بدون الفزاعة الإيرانية، وستبقى المنطقة في توتر واستنزاف منعا من صعود قوى في منطقة جغرافية من العالم ذات حساسية كبيرة، تلتفت لبناء مجتمعاتها وتطورها، وبالتالي تشكل خطرا على المصالح الأميركية، ونتنياهو المأزوم سيسعى لإطالة مدة الحرب، وسيكون الدور التالي على حزب الله في لبنان، إذ سيجبر على العودة لما وراء الليطاني، قسرا أو بصفقة ما
Social Links: