ثالث جَمَلُون

ثالث جَمَلُون

نجم الدين سامان

  • تعرف أوّل زقاق في حارة الناعورة؟.
    سأل أبو محمود وهو مسترخِ على كرسيّ القش، أجابه سمير بهزَّةِ من رأسه فتابع:- أول جَمَلون[1].. تتركه، الثاني.. تتركه، الثالث.. تنزل.
  • توكّلنا على الموَلى.
  • بس، انتبه، الليلة.. القمر في تمامه.
  • ولا يهمّك.. عمّي أبو محمود.
    قالها سمير ناهضاً، رافعاً يده بالتحية. خارجاً من المقهى؛ فتلمَّظ أبو محمود ببقايا الشاي في فمه… ونظر إلى آخر الشارع حيث مضى سمير، قبل أن ينعطف عبر زِيْبَاط[2] سعيد آغا، متوجّهاً نحو البيت الذي بناه أبوه بيديه على أرضٍ مشاعٍ في طرف البيدر الشرقيّ، وملأه باثني عشر ولداً، انتقاماً من فقره ثم مات…
    مُعلِّم والده.. حَنَّ عليه؛ شَغَّله مكان المرحوم، نزل إلى الشغل.. بِغَمْزوية [3] أبيه. ومنذ ذلك الوقت وهو يَنْتُر بها الجوالات[4] لتستقرّ على ظهره، ويشيل السَحَّارات من الأرض إلى القَبَّان، ومن القَبَّان إلى ظهر الحمير إلى الطِرْطيَرات [5] إلى البِيْكاَبات، إلى سيارات الشحن الكبيرة.
    فتحت أمّه الباب.. مُتسربلةً بثوب ترمُّلها الأسود، تعشَّى وسط قرقعة دزِّينة من الملاعق، وسط التواء دزِّينة من الأفواه، شَرَدَ عنهم.. تذكَّر ارتجاف جسده حين سرق لأوّل مرّة، ثم مشى نحو ضربةٍ سريعةٍ؛ خفيفة الوزن؛ تُغنيه عن شقاءٍ بلا طعم ولا معنى؛ ثمّ يتوب بعدها.
    لم يقع سمير في يد الشرطة ولا مرّة، لأنه لا يريد أن تقع عينا أمه عليه، موصوماً بالعار، فتطقّ قهراً وتَنْفَلجِ أو.. تموت.
    فَرَشَتْ لإخوته، ناموا.. مثل طابور نملٍ متلاصق، قالت:
  • مْتَى سأفرح بك يا ضوّ عيوني؟!
    يًتَمتِمُ سمير ناظراً من وراء كتفها إلى الغرفة الوحيدة المتطاولة، والتي هي مطبخْ وغرفة نومٍ.. في كلّ الأيام؛ وحمَّاماً عند العَتَبَة.. أيام الجمع والأعياد.
  • خَبِّيْت بَرْدَاية من أيام العزّ، نقطع بها البيت.. حتى تأخذ راحتك مع ستّ الحسن.
    يُرَبِّتُ على كتفها: – قومي ريِّحي جسمك يا موُه.. الله يشدّك بالعافية، ويخلِّيك فوق رؤوسنا.
    تتمدَّد راضية.. وتنام، تظلُّ عيناه مفتوحان على أفقٍ ليليٍ ضيقٍ.. يخترق النافذة الوحيدة العالية، والتي ليست شبَّاكاً مثل شبابيك بيوت الناس، بل.. مجرد فتحة للتهوية. ينتصف الليل، فينهض بهدوء.. يلبس ثيابه، يتلفَّح بالشمِاخ[6]، ينتعل مَرْكُوب أبيه الأحمر[7]، يتفحَّص شِبْرِيَّتَهُ[8]، ويمضي خلْسةً.. يعبر أول جَمّلُون.. الثاني.. الثالث…
    تَلَفَّتَ حوله.. لا أحد، الصمت يلفّ الحارة النائمة، لا.. حُرَّاس، لا.. دوريّات شرطة.. حملق في أرض الدار فرأى ظلَّه.. شاحباً ممطوطاً حتى حَجَر البير، تدلَّى، قدَّر المسافة ثم قفز بكلّ ارتخاء جسده.. نازلاً على رؤوس أصابعه مثل هَارْون عتيق[9]، ظلَّ مُقرفِصاً.. قال له أبو محمود.. أصحاب الدار كانوا على الصُومَعَة[10] ينتظرون بْوسطة [11] حلب، البيت فاضي، خذ مجدك.
    لكن سمير مشى على رؤوس أصابع قدميه زيادة في الحرص، التصق بالجدار.. مُرْهِفاً السمع، امتدت يده لتفتح باب الغرفة، بسرعة ٍ.. دَلَفَ إلى الداخل مثل لمح البرق؛ مُغلِقاً الباب وراءه بحرصٍ شديد، تجمَّد.. ريثما تتعوّد عيناه على الظلمة الطارئة؛ وريثما.. تنتظم أنفاسه، مسح الغرفة بنظراته.. كان ثَمَّة ضوء يتسلَّل من الشباك المفتوح ويضيء أرض الغرفة، حبَسَ أنفاسه، أسند ظهره إلى الحائط؛ وتعرَّق.. مُتَوجِساً أن يَنْفَرِطَ قلبه أمام السحر الذي يشعّ أمامه.. مسح جبينه، بلَّل شفتيه بِرِيْقٍ مضطرب وتقدّم خطوة.. ملتقطاً أنفاسه، ثم خطوة أخرى.. توضّحت له انسيابات شعرِ أسودٍ طويلٍ.. متناثرٍ على بياض المخدَّة، استدارة وجهٍ متورِّدٍ، حاجبان رهيفان.. شفتان مثل حبَّتي توتٍ بلديٍ أحمر، عنقْ مثل.. المرآة، نهدان متدوّران باسترخاء تحت الشرشف الورديّ المقَلَّم، دقّ قلبه بعنف.. تراخت ركبتاه فقرفص.. وجلس.. ما أجمل أخطاءك يا أبو محمود.. عقلك بعد بَطْحَتَيّ عَرقٍ انفَتَل، وأنت تَدْلُقُهُما سِيْكاً [12]على الواقف في خمَّارة أبو الياس. آه.. أطلقها من أحشائه طويلة.. حارقةً؛ ثم أمسك بها في رئتيه حتى لا تفضحه.. لأول مرّةٍ يرى سمير أنثى نائمة غير أمّه.. مرَّر أصابعه في الهواء تتشكّل في الضوء مع استرخاء الجسد، تتلوَّى، تتدوَّر، تنساب..
    إيه، نوم الصبايا.. حلو، نوم الصبايا.. هدايا، نوم الصبايا.. عيد.
    احتار ماذا يفعل، مسح الغرفة بعينيه، تأمّل فرشات القطن الهزيلة المكدّسة جانباً. لا شيء في البيت يستحق أن يُسْرق… خابية كبيرة في الزاوية عند العتبة، بضع صحونٍ مرصوفةٍ على رفٍ خشبيّ، لمبة نحيلة.. مطفأة.. مُتدليّة من السقف الخشبي، تحاول أن تملأ الفراغ، انزلقت عيناه فاكتشف طفلاً نائماً.. من أين جاء هذا الولد؟، تركوه معها وسافروا، ابنها؟!.. لأ.. أكيد أخوها، أخوها الصغير..
    خُيِّل إليه أنها ابتسمت.. فابتسم لها، لو يعرف.. اسمها، لو تسمعه الآن.. لناجاها، خفق قلبه بمزيجٍ من حبٍ صغيرٍ.. يتفتح؛ وشهوةٍ مُضنيةٍ للأنثى وأحلام، انحنى، تمدَّد.. لم يلتصق بها، وضع رأسه بهدوء بين النهدين، فتحركّت يدها بصورة غزيرية واحتضنت رأسه، أَحَسَّ بدبيب النمل في قشرة رأسه، اشتعلت خلاياه، خفق قلبه مُنشطراً مثل تينةٍ ريَّانِةٍ.. نقَرهَا عصفور التين، غابت عيناه.. أنفه .. فمه.. في دفءٍ لَدِنٍ؛ ناعم مثل فتافيت القطن الأبيض؛ سمع شيئاً ينبض بين نهديها.. كما لو انه خلخال في قدميّ حمامة.. أغمض سمير عينيه، استكان مثل قطٍ في حضن صاحبته… بنى بيتاً.. رَشَّةُ بالكلس الأبيض، زرع أمامه.. ورداً، كلَّ أنواع الورد، غرس في الطرف.. عود ياسمين، في الطرف الآخر.. دالية عنب، قطف منها أكبر عنقود، ناولها إيّاه… غسلته، فرشتْ البساط؛ مَدّ القماشة وأرخى كيس الصَدَفْ، مدَّ يده بحبّة عنبٍ.. نحو فمها، ضحكت دلالاً وخطفت الحبّة فاحترقت أصابعه، تقابلا وجها لوجهٍ.. يلعبان البرْجيِس، ترمى أصدافها… دَسْت[13]. يرمي أصدافه.. باره[14]. في البَارَة.. خسارة. تغلبه.. فيقرصها مُغتْاظاً، تضربه على يده: – يا عقرب؛ يا أمّ أربعة وأربعين.
    يضحكان، يميل نحوها.. فتنداح نحو البساط، يضع رأسه بين نَهْديْهَا، تحيط رأسه بذراعيها، تلعب بشعره، يحكي لها، تحكي له، يغفوان على برودة هواء الليل… فتنزلق النجوم من قبّة الليل مُنداحة نحوهما، يهوي نيزك فَيَلْسَعَ الصغيرَ النائمَ قربهما، ينتفضَ باكياً ويزحف نحوها، ينتفض سمير، تستقيم من نومها.. وهي ترمح.. وحين تلمح خيال رجلٍ أمامها.
  • تعرف أوّل زقاق في حارة الناعورة؟.
    سأل أبو محمود وهو مسترخِ على كرسيّ القش، أجابه سمير بهزَّةِ من رأسه فتابع:- أول جَمَلون[1].. تتركه، الثاني.. تتركه، الثالث.. تنزل.
  • توكّلنا على الموَلى.
  • بس، انتبه، الليلة.. القمر في تمامه.
  • ولا يهمّك.. عمّي أبو محمود.
    قالها سمير ناهضاً، رافعاً يده بالتحية. خارجاً من المقهى؛ فتلمَّظ أبو محمود ببقايا الشاي في فمه… ونظر إلى آخر الشارع حيث مضى سمير، قبل أن ينعطف عبر زِيْبَاط[2] سعيد آغا، متوجّهاً نحو البيت الذي بناه أبوه بيديه على أرضٍ مشاعٍ في طرف البيدر الشرقيّ، وملأه باثني عشر ولداً، انتقاماً من فقره ثم مات…
    مُعلِّم والده.. حَنَّ عليه؛ شَغَّله مكان المرحوم، نزل إلى الشغل.. بِغَمْزوية [3] أبيه. ومنذ ذلك الوقت وهو يَنْتُر بها الجوالات[4] لتستقرّ على ظهره، ويشيل السَحَّارات من الأرض إلى القَبَّان، ومن القَبَّان إلى ظهر الحمير إلى الطِرْطيَرات [5] إلى البِيْكاَبات، إلى سيارات الشحن الكبيرة.
    فتحت أمّه الباب.. مُتسربلةً بثوب ترمُّلها الأسود، تعشَّى وسط قرقعة دزِّينة من الملاعق، وسط التواء دزِّينة من الأفواه، شَرَدَ عنهم.. تذكَّر ارتجاف جسده حين سرق لأوّل مرّة، ثم مشى نحو ضربةٍ سريعةٍ؛ خفيفة الوزن؛ تُغنيه عن شقاءٍ بلا طعم ولا معنى؛ ثمّ يتوب بعدها.
    لم يقع سمير في يد الشرطة ولا مرّة، لأنه لا يريد أن تقع عينا أمه عليه، موصوماً بالعار، فتطقّ قهراً وتَنْفَلجِ أو.. تموت.
    فَرَشَتْ لإخوته، ناموا.. مثل طابور نملٍ متلاصق، قالت:
  • مْتَى سأفرح بك يا ضوّ عيوني؟!
    يًتَمتِمُ سمير ناظراً من وراء كتفها إلى الغرفة الوحيدة المتطاولة، والتي هي مطبخْ وغرفة نومٍ.. في كلّ الأيام؛ وحمَّاماً عند العَتَبَة.. أيام الجمع والأعياد.
  • خَبِّيْت بَرْدَاية من أيام العزّ، نقطع بها البيت.. حتى تأخذ راحتك مع ستّ الحسن.
    يُرَبِّتُ على كتفها: – قومي ريِّحي جسمك يا موُه.. الله يشدّك بالعافية، ويخلِّيك فوق رؤوسنا.
    تتمدَّد راضية.. وتنام، تظلُّ عيناه مفتوحان على أفقٍ ليليٍ ضيقٍ.. يخترق النافذة الوحيدة العالية، والتي ليست شبَّاكاً مثل شبابيك بيوت الناس، بل.. مجرد فتحة للتهوية. ينتصف الليل، فينهض بهدوء.. يلبس ثيابه، يتلفَّح بالشمِاخ[6]، ينتعل مَرْكُوب أبيه الأحمر[7]، يتفحَّص شِبْرِيَّتَهُ[8]، ويمضي خلْسةً.. يعبر أول جَمّلُون.. الثاني.. الثالث…
    تَلَفَّتَ حوله.. لا أحد، الصمت يلفّ الحارة النائمة، لا.. حُرَّاس، لا.. دوريّات شرطة.. حملق في أرض الدار فرأى ظلَّه.. شاحباً ممطوطاً حتى حَجَر البير، تدلَّى، قدَّر المسافة ثم قفز بكلّ ارتخاء جسده.. نازلاً على رؤوس أصابعه مثل هَارْون عتيق[9]، ظلَّ مُقرفِصاً.. قال له أبو محمود.. أصحاب الدار كانوا على الصُومَعَة[10] ينتظرون بْوسطة [11] حلب، البيت فاضي، خذ مجدك.
    لكن سمير مشى على رؤوس أصابع قدميه زيادة في الحرص، التصق بالجدار.. مُرْهِفاً السمع، امتدت يده لتفتح باب الغرفة، بسرعة ٍ.. دَلَفَ إلى الداخل مثل لمح البرق؛ مُغلِقاً الباب وراءه بحرصٍ شديد، تجمَّد.. ريثما تتعوّد عيناه على الظلمة الطارئة؛ وريثما.. تنتظم أنفاسه، مسح الغرفة بنظراته.. كان ثَمَّة ضوء يتسلَّل من الشباك المفتوح ويضيء أرض الغرفة، حبَسَ أنفاسه، أسند ظهره إلى الحائط؛ وتعرَّق.. مُتَوجِساً أن يَنْفَرِطَ قلبه أمام السحر الذي يشعّ أمامه.. مسح جبينه، بلَّل شفتيه بِرِيْقٍ مضطرب وتقدّم خطوة.. ملتقطاً أنفاسه، ثم خطوة أخرى.. توضّحت له انسيابات شعرِ أسودٍ طويلٍ.. متناثرٍ على بياض المخدَّة، استدارة وجهٍ متورِّدٍ، حاجبان رهيفان.. شفتان مثل حبَّتي توتٍ بلديٍ أحمر، عنقْ مثل.. المرآة، نهدان متدوّران باسترخاء تحت الشرشف الورديّ المقَلَّم، دقّ قلبه بعنف.. تراخت ركبتاه فقرفص.. وجلس.. ما أجمل أخطاءك يا أبو محمود.. عقلك بعد بَطْحَتَيّ عَرقٍ انفَتَل، وأنت تَدْلُقُهُما سِيْكاً [12]على الواقف في خمَّارة أبو الياس. آه.. أطلقها من أحشائه طويلة.. حارقةً؛ ثم أمسك بها في رئتيه حتى لا تفضحه.. لأول مرّةٍ يرى سمير أنثى نائمة غير أمّه.. مرَّر أصابعه في الهواء تتشكّل في الضوء مع استرخاء الجسد، تتلوَّى، تتدوَّر، تنساب..
    إيه، نوم الصبايا.. حلو، نوم الصبايا.. هدايا، نوم الصبايا.. عيد.
    احتار ماذا يفعل، مسح الغرفة بعينيه، تأمّل فرشات القطن الهزيلة المكدّسة جانباً. لا شيء في البيت يستحق أن يُسْرق… خابية كبيرة في الزاوية عند العتبة، بضع صحونٍ مرصوفةٍ على رفٍ خشبيّ، لمبة نحيلة.. مطفأة.. مُتدليّة من السقف الخشبي، تحاول أن تملأ الفراغ، انزلقت عيناه فاكتشف طفلاً نائماً.. من أين جاء هذا الولد؟، تركوه معها وسافروا، ابنها؟!.. لأ.. أكيد أخوها، أخوها الصغير..
    خُيِّل إليه أنها ابتسمت.. فابتسم لها، لو يعرف.. اسمها، لو تسمعه الآن.. لناجاها، خفق قلبه بمزيجٍ من حبٍ صغيرٍ.. يتفتح؛ وشهوةٍ مُضنيةٍ للأنثى وأحلام، انحنى، تمدَّد.. لم يلتصق بها، وضع رأسه بهدوء بين النهدين، فتحركّت يدها بصورة غزيرية واحتضنت رأسه، أَحَسَّ بدبيب النمل في قشرة رأسه، اشتعلت خلاياه، خفق قلبه مُنشطراً مثل تينةٍ ريَّانِةٍ.. نقَرهَا عصفور التين، غابت عيناه.. أنفه .. فمه.. في دفءٍ لَدِنٍ؛ ناعم مثل فتافيت القطن الأبيض؛ سمع شيئاً ينبض بين نهديها.. كما لو انه خلخال في قدميّ حمامة.. أغمض سمير عينيه، استكان مثل قطٍ في حضن صاحبته… بنى بيتاً.. رَشَّةُ بالكلس الأبيض، زرع أمامه.. ورداً، كلَّ أنواع الورد، غرس في الطرف.. عود ياسمين، في الطرف الآخر.. دالية عنب، قطف منها أكبر عنقود، ناولها إيّاه… غسلته، فرشتْ البساط؛ مَدّ القماشة وأرخى كيس الصَدَفْ، مدَّ يده بحبّة عنبٍ.. نحو فمها، ضحكت دلالاً وخطفت الحبّة فاحترقت أصابعه، تقابلا وجها لوجهٍ.. يلعبان البرْجيِس، ترمى أصدافها… دَسْت[13]. يرمي أصدافه.. باره[14]. في البَارَة.. خسارة. تغلبه.. فيقرصها مُغتْاظاً، تضربه على يده: – يا عقرب؛ يا أمّ أربعة وأربعين.
    يضحكان، يميل نحوها.. فتنداح نحو البساط، يضع رأسه بين نَهْديْهَا، تحيط رأسه بذراعيها، تلعب بشعره، يحكي لها، تحكي له، يغفوان على برودة هواء الليل… فتنزلق النجوم من قبّة الليل مُنداحة نحوهما، يهوي نيزك فَيَلْسَعَ الصغيرَ النائمَ قربهما، ينتفضَ باكياً ويزحف نحوها، ينتفض سمير، تستقيم من نومها.. وهي ترمح.. وحين تلمح خيال رجلٍ أمامها.. تشهق؛ تضمّ يديها إلى صدرها؛ تضمّ فخذيها، يحبو الصغير نحو انكماش جسدها؛ بينما تتقصَّى ملامح الرجل بَتوجَّس.
    تطلَّع سمير في عينينها، كان سيحكي، سيشرح لها كلّ القصة، لكنّ شيئاً ما.. سَدَّ حنجرته.
    تطلّعت في عينيه، استفافت من نومٍ مُتْرَعٍ بالأحلام.. على نظرات رجلٍ.. قلقةٍ، حائرةٍ، خائفةٍ، شاردةٍ، تلمع بالوميض.
    لم تِدْرِ، لماذا لم تصرخ.. فالقةً صمت الحارة: يا وِلِي.. حرامي.. حرامي. هَدْهِدَتْ الصغير ليهدأ؛ دون أن ترفع
    نظراتها عن وجه الرجل، فلاحظت ارتعاش شفتيه الرجوليتين وشاربه الأسود الكثيف.غَصبَ همسة من فمه لم يسمعها أحد.
    لم ترد، ردَّت غرَّتها على جبينها واستكان الطفل بين ذراعيها.
    انحنى سمير.. لا يدري كيف انحنى، اقترب بوجهه، لثم جبينها الساخن المًتعرِق، وتراجع مُبتعداً.. فتحت أجفاناً مُرتعشة ورمته بنظرةٍ عاتبةٍ.. كأنما ترميه بالفُلّ؛ قالت بصوتٍ.. يٌشبه الهمس، بهمسٍ.. يُشبه الصياح:
  • انت حرامي؟!!..
    فانتفض مذعوراً، فتح باب الدار.. انفتحت أمامه الأزقة، الحارات، الشوارع، الساحات، ركض.. ركض ركض.. لم يركض أهل الحارة.. وراءه، لم يَطارده الحُرَّاس، لم تُفْرَقِع سيارات الشرطة، ركض.. مُثقلاً بعرقه ولهاثه، بحريق شفتيه وطعم عرقها على الجبين.. ارتعش وهو يركض.. رفَّ بقلبه مثل عصفورٍ و… طار…
  • [1] جَمَلُون: حائط عريض من تراب وحجر يفصل بين البيوت العربية الطابع.
  • [2] زيْبَاط: ممر في الحارات الشعبية مسقوف، تعتليه غرفة تُطِلُّ على الحارة من جهتين.
  • [3] غَمْزوية: قطعة فولاذية على شكل إشارة استفهام “؟” لها مقبض يستخدمها الحالمون.
  • [4] الجوالات:أكياس قنِنَّب كبيرة توضع فيها الحبوب وغيرها.
  • [5] الطراطيرات: عربات شحن صغيرة تصنع محلياً بثلاث عجلات،للحمولات الصغيرة.
  • [6] اليَشمْرَ: غطاء للرأس يضعه الرجال، كوفية من قطن أو حرير.
  • [7] مَرْكوب: حذاء عريض مسطح، لون جلده أحمر، يستعمله الفلاحون.
  • [8] شبريّه: سكينة، مُصَنَّعَةٌ محلياً، بمقبضٍ وغمدٍ من الجلد، بطول شبرٍ واحد.
  • [9] هارون عتيق: للقط الذكر الكبير السن.
  • [10] الصَوْمعة: مكان في ادلب لتخزين الحبوب على الطريق الإسفلتي إلى حلب.
  • [11] بوسطة: باص صغير للركاب.
  • [12] سِيكَّاً: خالصاً. وهو شرب العرق دون مزجه بالماء.
  • [13] دَسْت: ترتيب معين لأصداف لعبة البرجيس، وهي من أقوى الحركات.
  • [14] بَارَة: ترتيب معين لأصداف لعبة البرجيس، وهي من أضعف الحركات.
  • *- من مجموعة “نون النساء” / إدلب – 1990.
  • . تشهق؛ تضمّ يديها إلى صدرها؛ تضمّ فخذيها، يحبو الصغير نحو انكماش جسدها؛ بينما تتقصَّى ملامح الرجل بَتوجَّس.
    تطلَّع سمير في عينينها، كان سيحكي، سيشرح لها كلّ القصة، لكنّ شيئاً ما.. سَدَّ حنجرته.
    تطلّعت في عينيه، استفافت من نومٍ مُتْرَعٍ بالأحلام.. على نظرات رجلٍ.. قلقةٍ، حائرةٍ، خائفةٍ، شاردةٍ، تلمع بالوميض.
    لم تِدْرِ، لماذا لم تصرخ.. فالقةً صمت الحارة: يا وِلِي.. حرامي.. حرامي. هَدْهِدَتْ الصغير ليهدأ؛ دون أن ترفع
    نظراتها عن وجه الرجل، فلاحظت ارتعاش شفتيه الرجوليتين وشاربه الأسود الكثيف.غَصبَ همسة من فمه لم يسمعها أحد.
    لم ترد، ردَّت غرَّتها على جبينها واستكان الطفل بين ذراعيها.
    انحنى سمير.. لا يدري كيف انحنى، اقترب بوجهه، لثم جبينها الساخن المًتعرِق، وتراجع مُبتعداً.. فتحت أجفاناً مُرتعشة ورمته بنظرةٍ عاتبةٍ.. كأنما ترميه بالفُلّ؛ قالت بصوتٍ.. يٌشبه الهمس، بهمسٍ.. يُشبه الصياح:
  • انت حرامي؟!!..
    فانتفض مذعوراً، فتح باب الدار.. انفتحت أمامه الأزقة، الحارات، الشوارع، الساحات، ركض.. ركض ركض.. لم يركض أهل الحارة.. وراءه، لم يَطارده الحُرَّاس، لم تُفْرَقِع سيارات الشرطة، ركض.. مُثقلاً بعرقه ولهاثه، بحريق شفتيه وطعم عرقها على الجبين.. ارتعش وهو يركض.. رفَّ بقلبه مثل عصفورٍ و… طار…

[1] جَمَلُون: حائط عريض من تراب وحجر يفصل بين البيوت العربية الطابع.
[2] زيْبَاط: ممر في الحارات الشعبية مسقوف، تعتليه غرفة تُطِلُّ على الحارة من جهتين.
[3] غَمْزوية: قطعة فولاذية على شكل إشارة استفهام “؟” لها مقبض يستخدمها الحالمون.
[4] الجوالات:أكياس قنِنَّب كبيرة توضع فيها الحبوب وغيرها.
[5] الطراطيرات: عربات شحن صغيرة تصنع محلياً بثلاث عجلات،للحمولات الصغيرة.
[6] اليَشمْرَ: غطاء للرأس يضعه الرجال، كوفية من قطن أو حرير.
[7] مَرْكوب: حذاء عريض مسطح، لون جلده أحمر، يستعمله الفلاحون.
[8] شبريّه: سكينة، مُصَنَّعَةٌ محلياً، بمقبضٍ وغمدٍ من الجلد، بطول شبرٍ واحد.
[9] هارون عتيق: للقط الذكر الكبير السن.
[10] الصَوْمعة: مكان في ادلب لتخزين الحبوب على الطريق الإسفلتي إلى حلب.
[11] بوسطة: باص صغير للركاب.
[12] سِيكَّاً: خالصاً. وهو شرب العرق دون مزجه بالماء.
[13] دَسْت: ترتيب معين لأصداف لعبة البرجيس، وهي من أقوى الحركات.
[14] بَارَة: ترتيب معين لأصداف لعبة البرجيس، وهي من أضعف الحركات.


  • Social Links:

Leave a Reply