نجم الدين السمان

*- كرة الضوء الحمراء:
أتدلَّى من منتصف السقف، فوق سريرها.. تماماً، كأني قَدَرُهُمَا؛ اختارتني ليلى فحملني قيس مُبتهجاً، علَّقني بالسقف وليلى تُراقبه.. تخشى أن يَمِيْلَ به الكرسيُّ فيقع. وضعَ في فمي مصباحاً أحمر، طَبْطَبَ عليَّ: اخجلي، سترين أشياء لن يراها أحد.
أطاح بالكرسيِّ قافزاً باتجاه ليلى عن عَمَدٍ ليطير بها إلى السرير، فلمَّا حطَّا على بياض المِلاءة، وصارت ليلى بين ذارعيه، ضحكاً.. كان يضحكان مثل العصافير، قال:
ـ لم أَعُدْ أحتمل.
- تظلُّ تتشكَّى، ماذا تريد؟
ـ أُريدكِ..
لم يُكْمل جملته، أطبق على شفتيها بشفتيه، حتى لكأنَّ دهراً مضى، ثم كالمجنون عَرَكَهَا عجينةً تحت لَمْسِ يديه، فَارَ بهما التَنُّور.. وأنا أنوسُ فوقهما مُتَفَادِيَةً ذُؤَابات اللهب، يُعَرِّيها قيسٌ من ارتباكه قطعةً قطعة، ومن ارتباكها حريراً يَشفُّ.. دوائر من لهفة الدانتيل، تتبدَّى ليلى كما لم تَرَ كرات الضوء امرأةً.. مُنَمْنَمَةً، خطوطها ألغاز الخَلِيْقَة، بلَمَسَاتِهِ تتلوَّى.. فتلمسه بالأنامل كأنما تتهيَّبُ غابةً وحشيةً ما بين كفيه، ما إنْ تقرؤُهُ حتى ينخطفَ فيتعرَّى، تختلس ليلى اللحظةَ لتتفادى عُرْيَهُ فَتُسْدِلُ الغطاء فوق ما قَدْ تجلَّى، يضحك مُنْدَسَّاً تحته، يِتلوَّى بهما قماشٌ، ينداحُ، يتدوَّر.. أسمع بالكادِ زقزقاتٍ، تَمْتَمَاتِ السَحَرَة، يَنْتِرُ قيسُ الغطاءَ كاشفاً ما قد استتر، فأُدرك لوهلةٍ تجسيد الغِوَاية ما بين ذَكَرٍ وأُنْثَاهُ…
الغرفة شَفَقٌ من غبار الطَلْع.. ليلى مُغمضة العينين وقيس يراها بأصابعه، بأطراف شفتيه، بأرنبة أنفه، بمرور جبهته فوق ارتجاف الخلايا، يتمسَّحُ بها، يَمُوءُ، يلمس ثم يُخَرْمِشُ، تتلمَّسه ثم تُخَرْمِشُهُ، بغتةً، يتصلَّبُ عموده الفقريُّ.. كأنه ينوي ابتعاداً، فإذا بَعُنَّابِهِ يطعن الوردَ، وإذا شهقتها تصَّاعد فتكويني، أراه يَهُزُّها كشجرة توتٍ قبل اندياح ثمارها فوق حقول السرير، يشهق فَيَرِقُّ، تشهق فتصير له يمّاً، سريرهما زَبَدٌ يمور.. مَدُّ أمواجٍ، رياحٌ تَلُوبُ، غيوم تنضفر فَتُرْعِدُ، يُعْشِيني التماعُ البرق، يَنفجر السرير عن أمطارهما.. الأمطار من سماءٍ عادةً! الآن.. ترتقي منهما إليَّ، آه.. يا ربَّ كلِّ شيء، ما أصعب أن يكون أحدٌ ثالثَ اثنين في غرفة النوم.
ثم كأنهما السكينةُ بعد العاصفة.. ينحلُّ التحامُهُمَا على مهلٍ، كأنما لا يُطِيْقَانِ افتراقاً.. مُسترخيان جَنْباَ إلى جنبٍ، أصابعهما مُتشابكة، أعضاؤُهُمَا تَختلجُ وَهْناً على وَهْنٍ..
يمرُّ دهرٌ من ذهولٍ، متمايلاً فوقهما كنوَّاس الساعة، ثم تختلجُ في الغرفة نسمةٌ فأرى نقطةً، ثم اثنتين، ثم ثلاثاً، أشدَّ حُمرةً من خجلي، حين تنهض ليلى مُهَرْوِلةً، قبل أن يلمحها قيسٌ في غَفْوَتِهِ.
على صوت انصفاق بابٍ وراءها، أستفيقُ، ويستفيق قيس.. يتلمَّس بامتداد ذراعه مكانها، أصابعه تنكمش فوق مساحتها دافئة وخالية، يلوي رقبته فيلمح النقاط الحمراء إيَّاها، يُبْهَتُ للحظةٍ.. يرفع أصابعه أمام عينيه مُخَضَّبَةً بِحِنَّاء البكارة.. يهتف مثل غرٍ: – فَعَلْنِاهَا يا ليلى.. فعلناها.
من خلف باب الحمَّام، أسمع ويسمع قيسٌ شهقةَ الماء في ضحكاتها، يتقافز قيسٌ.. لو أني بقدمين، يفتح الباب، أراها وسط زذاذٍ وبُخَارِهِ، ثم أرى قيساً يلتحم بها تحت انثيال الماء، وليلى تتحاشاه.. لو أني أطراف أصابعه، يُدَغْدِغُها قيس من ثناياها، تُزَقْزِقُ: - خَلَصْ دَخِيْلَكْ.. خلص.
تَنْدَاحُ برأسها إلى وراءٍ، فيرتشف الماء مُنْثالاً من طرف ذقنها، يرتشفه من مرايا الرقبة، من بحيرات النهدين.. تشبكُ ليلى أصابعها خلفَ رقبته، تُدْنِيْهِ بُرْهَةً ثم تُبْعِدُهُ حتى يرتوي الظامئون، الذين احتشدوا في حَشَاهُ، وعلى أطراف شفتيهِ..
يا ربَّ الأرباب، لماذا خلقتني كرةً من خلائط “الفِيْبَر.. ليس فيها الطينُ”.
ينفجرُ المصباح في رحمي، شظاياهُ تُدْميني، فَأُطْلِقُ صرخة المُعَنَّى يرتجُّ لها الهواء، يتجمَّد قيسٌ، ينقطع ترنيمُ ليلى، يهمس لها مُتَحَفِّزاً:
ـ هل سمعتِ صوتاً؟
ـ سمعتُ؟
ـ ماذا كان؟
ـ صوتٌ.. مُجَرَّد صوت!
بغتةً، ينفجران ضاحِكَيْنِ، كانا يضحكان من نسمة الهواء إذا هبّت.. كأنما العشق مُرَادِفٌ للضَحِك.
يتركاني في ألمي، يتجهان نحو أريكة في الصالة مُتَحَاصِرَيْنِ، تلفِّ جَذْعَيْهمَا منشفة واحدة، والوقت ما بين صباح وظهيرة..
متى سينتبه أحدهما فينزعَ من أضلاعي الشظايا.. خسرتُ لِتَوِّي ضلعاً، ثمَّ سيمرُّ ليل حتى يكتشفا أني بِقَدْرِ ما انتشيتُ بهما.. تألمتُ، كأنما النشوةُ يتبعُهَا الألم.
*- ليلى
لم يكن قيس أول شابٍ.. أُعْجَبُ به، لكنه أولُ من أحببتُ، ولا أتمنَّى أن يكون آخرهم..
ما إنْ تكوَّرَ نهداي حتى أخافني الدم الأول، ثم شهراً تلو شهر.. تجاوزتُ خوفي، خصوصاً حينما تعلَّقتْ بي أولُ عينين ذكوريتين مَيَّزَتَانِي من بين صبايا الحارة، مَسَّ قلبي اضطرابٌ غامضٌ تبلورت له في داخلي مرآةٌ، كبرتُ فكبرتْ معي.. أرى فيها انعكاس وجوه الرجال وأرواحهم، قيس، الآن.. في محْرَقِ اللوعة، ثم بإصراره الطفوليِّ، بِخَفْق روحه كلما رآني، راح ينقش اسمه فوق رهافتها، مُتَخَوِّفاً أن يُثْقِلَ فيُشظِّيها.. غَيْرُهُ، من ردَّة فعلٍ أولى رماها بالحجارة، اتقَيْتُهَا سَبْعَاً براحات الروح فَأَدْمَتْنِي، وبفتنة الجسد.. فأَدْمَيْتُهُ. سِأَلَتْنِي نفسي مِرَاراً: – لماذا لا تختبرين حُبَّ قيسٍ فوق حقول الجسد؟
شيءٌ ما، كان ينمو، يتبرعم بينما نتلاقى لنمضي معاً، نقضي اليومَ بِطُوْلِهِ حتى نطويه، يُودِّعني قيس مساءً عند مدخل البيت الذي أُشَارِكُ فيه طالباتٍ غيري.
ينتظرني عند خروجي من محاضرات الجامعة، نحكي في كُلِّ شيء، وعن كلِّ شيء.. سِوَانا، يَهْجِسُ دوماً بحلمٍ على هيئة طائر يفرُّ من بين يديه.. ها أنذا أيضاً بين يديه، فلماذا لا تَهْجِسُ يا قيس بحلمٍ يُداريك؟
يتفادى قيس هواجسي بأحاديث ونقاشاتٍ عامةٍ، بسخريته من كلِّ شيء، سِوَاي، يهجو زمناً لا يجيءُ وأزماناً أوصلتنا إلى ما نحنُ فيه..
يضحك من خيباتٍ لا أكاد أراها، قال إنها آتيةٌ.. لا رَيْب.
يُعَدِّد لي جوائزَ فيلمٍ سَنَراهُ، حتى لنكادُ نكون وحدنا في عتمة الصالة؛ يُشير في مسرحٍ إلى رؤوس قليلةٍ، مُتناثرةٍ فوق الكراسي.
يدعوني إلى جلسة شاي في المقهى المُوَاجِهِ للقلعة، بعد حفلة فول مُدَمَّس، نتبادل كُتُباً نكتفي من نقاشها بغمزةٍ لنرميها في أقربِ برميلٍ لزبالة، وَضَعَ أحدنا وردةً في كتابٍ، احتفظنا به، حتى صارت لدينا حديقةُ وردٍ في أرحامِ الكتب.
نمشي كثيراً لنطوي حاراتٍ مُبَلَّطةٍ بالحجر، نعبر تحت أقواس وزخارف لم يأكلها بَعْدُ أو.. سيأكلها سرطان الأسمنت، نُدَلِّي أرجلنا في الهواء مُتَلاصِقَيْنِ فوق أحد أبراج القلعة، وحلبُ حولنا ومن كل جهاتها تتبدَّلُ ببطءٍ، تتغضَّنُ، نَسمع صوت سُعَالِهَا وَلُهَاثَ رئتيها من زفير النفوس.. يَرِفُّ بجانبنا شيءٌ، فإذا كيسٌ من النايلون الأسود، يتخطَّانا مُدَوِّماً، ثم يهبط فَنَخَالُ مصيرَهُ خندقَ الماء حول القلعة، غير أن هَبَّةً من غبارٍ تُدَوِّمُ مُحَلِّقَةً به يكاد يَلْمِسُ قُبَّة مَزَار “النسيميّ”؛ يتلامَعُ تحت شمسِ رمادٍ فيختفي عن ناظرينا، أسأل قيساً:
- أين سيحطُّ، إذا مضى في هذا الاتجاه؟
يُحدِّقُ في الهاوية التي تتبدَّى تحت قدميه: - سيحطُّ في باحة مدرسة الكواكبي.
- تلك التي في الحيِّ الجديد، تُرفرف فوقها الزيناتُ وصور الديكتاتور؟
ـ بل، القديمة.. خاويةً من طُلاَّبه ومُرِيْدِهِ.
نمشي كثيراً لِتَتْعب فينا الأسئلة.. نتعبُ لنجلسَ، حتى لنكاد نعرف كلَّ ظلٍ على كلِّ مقعد في الحدائق، حين ننهض.. نكون تركنا إشاراتٍ غامضةٍ على مساند الخشب.. بغتةً، يقف بي قيس أمام مكتبةٍ، يتركني على الرصيف، يدخل، ثم يخرج بديوان شعرٍ في كلِّ ما قاله أراغون لإلْزَاهُ، يُنَاوِلُني إيَّاهُ.. لماذا يتخفَّى قيسٌ وراءَ سِوَاه؟
مرةَ، قال لي مُتَفَاصِحٌ من حزبٍ ثوري، مُحاوِلاً إغوائي: – كم تُشبهين روزا لوكسمبرغ.
ثم عَدَّ أسماءَ عشيقاتٍ مجهولاتٍ جداً لمناضلين معروفين جداً!.. ما شأني أنا بكلِّ هاتِهِ النساء؟!
لكزني قيسٌ: أين شَرَدْتِ؟
لأُغِيظَهُ.. حكيتُ، اقترب.. صرنا مُتَقَارِبَيْن في تَقَابُلِنَا بأكثر ممَّا تَحْتَمِلُهُ ساحةٌ عامةٌ، حامَتْ حولنا العيون باستطلاعٍ فَجٍّ، قال:
ـ أُخَمِّنُ أنك قلتِ له: بل.. أنا ولاَّدةُ بنت المُسْتَكفي.
ضحكتُ حتى لامَسْتُهُ، شدَّني من يدي كاسراً طوقَ العيون، دوائرَ الأفواه حولنا فَاغِرَةً من الدهشة.. كأنها لم تر اثنين يضحكان في ساحةٍ هكذا، سوى في الأفلام؛ عبرنا الساحة ركضاً.. أصابعنا تتشابك.
ثمّ كأنَّ قيساً يقرؤني من أصابعه التي بين أصابعه، همس ونحن نعبر ممرَّ المشاة: أتعتقدين أن ابن زيدون قد مات؟
يكتفي قيس بتلميحاته.. يُهديني قصائد غيره، وهو الشاعر، أكثر أقرانه مُشَاركةً في أمسيات الجامعة.. يُغيظني أنه لم يقرأ قصيدة لي، كَتَبَهَا لأجلي، مُبْتَهِلاً، بتضرّع، يطلب قلبي بأيّ ثمنٍ، أو… يموتَ دونه!
صفقتُ باب غرفتي ورائي، تركتُ زميلاتي في المسكن ذاهلاتٍ، وقيس عند مدخل البيت.. لا أنا دعوته، ولا أنا وَدَّعته، قُلْنَ من حيرتهن: تفضَّل يا قيس، فاعتذر شاحباً وغادرهن.
رميتُ ديوان أراغون إلى السرير، فطارت من ثناياه ورقةٌ مَطْوِيَّةٌ، ما إنْ لاَمَسَهَا الهواء حتى اتخذت هيئة جناحين، رَفَّتْ بين أربع جدران، تهادتْ قُرْبِي، ثم استكانتْ فوق الطاولة، ارتكبتُ.. تلامعت فيها حروف، تلك قصيدة بخطِّ قيس!..
أثقلني عرقٌ باردٌ حارٌ، تجمَّدت بُرْهَةً لا أُطِيْقُ في نفسي حَرَدَ البنات، ثم لم أعد أُطِيْقُ بلوزتي.. خلعتها عنِّي، خلعت حذائي.. قذفته إلى ركنٍ، خلعتُ بنطال الجينز، طَوَّحْتُ بحمَّالة نهديَّ، رميتُ إلى لا مكانٍ سروالي الداخلي على الكرسيّ، جلستُ.. تناولتُ بأصابع واجفةٍ قصيدته، فَتَلامَحَتْ في سواد حبرها عيناه، ارتجفتُ.. أَسْدَلَ خجلي السِتْرَ عليّ، قرأتُ أولَ ما تهجَّتْهُ الروح:
“أودُّ لو أجمعُ النساء فيكِ
ثم أُوَزِّعَهنَّ في القبائلِ
ليسَّاقطَ الرجالُ صَرْعَى كُلُّهُمُ
قتيلُ هواكِ.. هذا القيس”..
أُنَقِّلُ عينيَّ ما بين سطورِهِ، قلبي يخفق من أطرافه، عُرْيِي يَصْطَكُّ.. هل هذا هو الحب؟!
أقفز مُنْدَسَّةً في سريري، أَشُدَّ الغطاء فوقي حتى آخر خُصُلاَتي، مُحْتَجِبَةً عن كلِّ ما عدا قيس.. يَقْرَعْنَ باب غرفتي مُتَضاحكاتٍ، تدعوني زميلاتي لأخرجَ إلى عشائِهِنَّ الأخير..
أتشَّبثُ بِثَنِيَّاتِ فرَاشِي كأني أتمسَّكُ بحبل المشيمة.. لا أريد أن أعبرَ لِيُفاجئني ضوءٌ فأَصْرُخَ احتجاجاً ثمَّ أُداري خيبتي ببكائي…
تقطعُ الدَايَةُ حبلَ المشيمة، تُمسكني من قدميَّ، تقلبني في فضاء عيونٍ تستطلع قدري، يتجهَّمُ وجهُ والدي من انتظار ذكرٍ لا يأتيه.. لا أحد يُزغرد، يمسحون بالملح بكائي، ثم بالزيت خَطَاياي، لا أحد يُوزِّع الحلوى.. يَضمُّون فخذيَّ، يُسْبِلُوْنَ ذراعيَّ خاصرتي، يربطونني بالقمّاط.. كأنهم يمنعون عنِّي ألعاب الطفولة، لكنها قبلةٌ، خاطفةٌ فحسبُ، أطلقتْ فيَّ أنوثتي، ولمَّا أَزَلْ ألعبُ بحثاً عن حرارةٍ تُشْبٍِهُ لَدْغَ النَّحْلِ، بحثاً عن تفسيرٍ لاضطراب الهرمونات في الدم وفي الدماغ، ولآلام الحَيْضِ، مُذْ طوَّقني ابن الجيران بذراعيه، في ظلال مدخل بيتنا، وعلى عَجَلٍ.. قبَّلني.
اكتشفُ فيما بعدُ.. أَنْ لا شيء يُسْتَعَادُ، وأَنْ للقبلات نكهاتٌ كالتوابل مُفْرَدَةً.. بَعْضُهَا كخَلْطة العطَّارين، بَعْضُهَا حَبَّةُ “فاليوم” بَعْضُهِا مَلاَذٌ، بَعْضُهَا.. بَعْضٌ من يأسٍ، بَعْضَها ما تَوَدُهُ الروحُ، وبعضها ما تصرخ به غرائزُ الجسد!، ثمَّ لم أعد أُسْلِمُ شفتيَّ لأحدٍ.. ما جدوى قبلةٍ لا تجمع هذا كلَّهُ، أو.. تَزِيْدُ؟
جسدي بوصلتي، بوصلتي شفيفُ حاسَّةٍ في حوَّاء لا تُخْطِئُ في الرجال قراءةً واختزالاً.. آدمُ، غادرته تلك الحاسَّةُ، كانت قبل التفاحة لديه، طَوَقْهَا رَغَائِبُ فحولته.. الرغباتُ سِرُّهُ، تملأ جبهته، فَصِّيِّ دماغِهِ، وسوائله.. تُرْغِي، ثم تُزِيْدُ فيه، كما لَوْ دونها يخشى الموت. هل كان قيسٌ يخشى فَنَاءَه.. فأحبني؟
وكنتُ فقدتُ بكارتي قَبْلَهُ، أعطيتها فيما أنا ألعبُ، وقد نَغَّصَتْ عليَّ أنوثتي، ثم حين تَجَاسَدْنَا لأول مرةٍ، افتعل قيس ارتباكاً لم أُدْرِكْهُ.. دَلَلْتُهُ بأصابعي إلى دَغْل أسراري، ساخرةً من ارتباكه وقِلَّةِ خبرته، أوحى إليَّ بأني عذراء لتوِّي، وفي كلِّ مرَّةٍ، وكنتُ أدمنتُ ارتشاف الدِنَانِ قَبْلَهُ، ولسان حالي أن النبيذ.. سَوَاءُ!
في أول لياليه.. خِلْتُ انتشائي به شيئاً تستدعيه الطَزَاجَةُ، ثم في ليلةٍ غَذَوْت لَهْفَتَهُ، ينداحُ سريراَ، أتلوَّى لَحَافاً، مَرَةً يصير خاصرتي، مرةً.. تُطَوِّحُني خاصرته، أَلْويْهِ.. ويَلْوِيني، يأتيني كما تفعلُ الخيلُ، كما العصافيرُ ليلةً، يُدَاوِرُ حول مياهي لينخطف فيها كَفَحْلِ السمك.. أتجاذبه نحو شرقٍ وجنوب، يخطفني من نجمة صُبْحي.. أطير به من سُهَيْلٍ الى زُحَل، أُوْمِي لبناتٍ نعشٍ مُتَمَنيَّةً معه اختلاج ذروات الموت!
ثمّ لا يَكِفُ في اندياحِهِ عن هَمْسِهِ:
ـ لا تُقَاربي عَنَبَاً قبل الأربعين، الخَلُّ يا ليلى دُوْدُهُ مِنْهُ و.. فيهِ.
أضحكُ بكلِّ أعضائي بين ذراعيه، فاكتشف لوهلةٍ أن أدغالي تضحك مثلما تَتَنَدَّى وتحتوي وتتأوَّهُ وترتعش.
من أجله.. دَاوَرْتُ أمام عشاقي، رميتهم بسهامٍ ليس في غاياتها القتل، لأُخْرِجَهُم بالصَدِّ الرؤوم عن حقولي، بينما أركض بأقدام الربيع نحو قيس، وقيس يموت من الغيرة، مُنتشياً بأنّي له دون سِوَاه.. كم تخيَّلتُهُ كجواد امرئ القيس مِكَرِّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ معاً، كأنما ليطرد أجسادَ سِوَاهُ عن جسدي، ظلَّ في هَوَسٍ حتى تقشَّرَ عن جلدي الجلدُ، صَفَعْتُهُ: مجنونٌ أنتَ يا قيس.
تراخى بين نهديَّ، ثمَّ في صمتٍ بكى.. لامستُ ذَوَائِبَهُ:
ـ يكفيكَ أنكَ عَبَرْتَ بَرْزَخَاً إلى روحي.
استفاق كالذاهل، لامسني نحيلاً قد شَفَّهُ الوَجْدُ.. راقَصَني، جلسنا بعد لهاث إلى طاولةٍ في الرُكْنِ، رشفنا كأسين لنرتوي، تنحنح، على مُحَيَّاهُ هيئةُ سقراط لحظةَ تَجَرَّعَ قارورة السُمِّ، قال: ليلى.. هل تتزوجيني؟
دونما قصدٍ.. فَرْقَعَتْ في المكان ضحكاتي، استدار نحونا كلُّ رأسٍ حول طاولةٍ، كلُّ جَذْعٍ في حلبة الرقص، استقام مخطوفاً وغاب.. صرتُ أهجسُ من ثُمَالته، ومن جَذَعي، أتضرَّعُ إلى عَشْتار أن يدومَ عِشقُهُ، وعشتار تسخر منِّي.. تهمِسُ في ليلي، وليلي كلُّه قيس: لرجلٍ واحدٍ، لم تُخْلَق امرأةٌ.
أُحَدِّقُ في عينيها مبهوتَةً.. فتحتجبُ.
يطلع صُبْحٌ فَتُشَافِهُنِي بحروفٍ وقد منعوا عنها ألواح الطين:
ـ بِحَدِّ السيف قَلَبَ جلجامش مُعادلتي، نَقَشَ بأزاميل الحديد على حجارة “أوروك”: لم يُخْلَق رجلٌ لأمرأةٍ واحدةٍ، فصدَّقه الرجال! أطيحي يا ليلى بلوائح الحجر، قيسٌ من سلالته، واحدٌ بين الرجال، والرجال في سرير الحياة مُتشابهون، أطفالٌ هُمُ.. في إهَابِ النمور، جلودهم مُرَقَّطَةٌ، أقنعتهم خادعةٌ، قساةٌ، أنانيُّون، يُحبِّون فكرة الحب، لا يُجازفون بِمُلْكٍ، ولا بأَيْمَانِهِم وما مَلَكَتْ، مُلاَّك أجسادٍ وأموالٍ وأسلحةٍ، طُغَاةٌ، ما تحت جلودهم هَشٌّ كالقوارير.
ركضتُ إلى قيس، اعترفتُ له بالذي شَافَهَتْني به عشتار.
علَّق هامساً، كأنما لا يَوَدّ أن تسمع دوني النساءُ:
ـ في كُل امرأةٍ عشتار نائمةٌ، إذا استفاقت.. فيا لطيف الألطاف استُرْ!
غَضَبْتُ ضحكاتي.. حاجَجْتُهُ: وأنت، تحسبُ أن جلجامش فيك؟
أخذني بين ذراعيه، أغمض عينيه، بين نهديَّ، همس لِتَوِّهِ:
ـ أنا أنكيدو، الذي من ماءٍ وطين.. أخذته المرأة من أطرافه على خبزٍ، وإلى ملحِ دُنْيَاهُ، ثم إلى نشوة خمورها الفاتنة.
أَدْنَيْتُهُ من حُلْمَتَيَّ:
ـ اشربْ يا قيسُ.. ارتوِ.
ظلَّ يرشفني كأنما قد تاهَ عن دياري دهراً، فلمَّا شَارَفَ مَوْتَهُ، استدلَّ من شهقة الروح عليّ.
ارتشفته كماء الضُحَى، توضأتُ بِسِرِّهِ وسروره، مُدْمِنَةً على صَبَوَاتي فيه، حتى لكأنه قال مرةً: لماذا لا نتزوَّج فتزوَّجنا.
بل، أنا التي قلت: ـ تعبتُ يا قيسُ من سؤال العيون، معك وحدك.. أَحْبَلُ بالأجوبة. فتزوَّجنا..
*- قيس..
لم أجد هذا المقطع بين مُسوّدات قصّتي.. وكنتُ في أول نومي، يمنعني شيء غامض عن نومي، ثم جاءتني قصتي هذه؛ على أطراف أصابعها.. حافيةً، دغدغتْ أرنبة أنفي، ما خلف أذني حتى منبت الكتف، تشمَّمتني، همستْ.. تقلَّبتُ في سريرٍ غير سريري، لكزتني.. استفقتُ.
فلمّا أفقتُ.. لم أجد هذا المقطع بين مُسوَّدات قصَّتي، كأنه حبر إلى بياضه.
حاولتُ كتابته ثانيةً فما طاوعتني الحروف، حاولت استحضار قيس ثانيةً فما أدركتُ سوى غيابِهِ في حضوره؛ وسوى حضورِهِ في الغياب.
قيسُ بعد انتهاء قصّته.. غادرني، حتى.. لم يعد لي من سلطانٍ عليه!.
*- كرة الضوء الحمراء
منذ عشر سنين وأنا أتدلَّى من ذات السقف.. أرى ذاتَ الغرفة جدراناً وكواليس. اهترأ الشريط الذي يربطني بالسقف، سينقطع بي.
ومنذ ما لا أعرف، لم تُشْعِلا في رحمي ضوءاً، حتى صار يُؤْلمني نَحِيْبُهُ، تحايلتُ عليه فَأَسْقَطْتُهُ، بِدوائر أحشائي.. ارتطم، سمعتما آهتي وصوت الشظايا، لم يرتعش فيكما جَفْنُ..
بعد دهرٍ، قال قيس دون أن يستدير:
ـ هل سمعت صوتاً؟
- سمعتُ.
ـ ماذا كان؟
ـ صوت.. مُجرَّدُ صوت!
وما كُنْتُمَا في غَفْلةٍ، بينكما مسافة هي التي سأسقط فيها.. إذا سقطتُ.. وَجْهَاكُمَا كلٌ إلى جدارٍ.. الغبار يا ليلى تراكم فوق رموشي، وكُنْتَ تفكُّ قيدي كلَّ حينٍ، تأخذني من هُبَاب الدهرِ، تغسلني بالماء، يُلاحقك يا ليلى بتلميحاته.. يُشَبِّهُ استداراتي باستدارات أعضاء فيك، فتضحكين..
كم ابتهلتُ إلى الله أن يرزقكما بطفلٍ.. الذي فعلتماهُ أمام ناظريّ يُخَصِّبُ صحارى بأكملها، كأنما نُطَافُكَ.. وَهْمٌ، كأن ذروات خِصْبكِ في كلِّ شهرٍ.. سراب!
أهمس بكلِّ أقواسي: خُذَانِي بين ذراعيكما طفلاً من خلائط “الفِيْبرَ” فألهو بينكما لتلهو بكما الحيّاة.
هَمْسَتي تَتَمَاوَتُ، أُعَاوِدُ قبل شَهْقة الروح، كأنما أُذْكي في الرماد جَذْوَةً، أُحْرِقُ كفيَّ لأرمي بالجِمَار تاريخ العشق.. يا ليلى، يا أراغون، يا بُثَيْنُ، يا روميو، يا إلزا، يا جميل، يا جولييت، يا ولادة، يا قيس..
ثمَّ، كأني قد.. متُّ، لا يسمعني في غرفةٍ.. اثنان، فكيف يسمعني النازلونَ من السَفِيْنِ، وقد رَسَتَ على الجُوْدِيِّ، يُخَوِّضون في الطين.. اثنان من كل نوعٍ، اثنان من كل جنسٍ، اثنان في واحدٍ، جوابٌ.. قَرَارُ، ربيع امرأةٍ يتنازعها الخريف، خريفُ رجالٍ بعد كلّ صيف.. تنضج امرأةٌ في صيفها، يكتمل رجلٌ في خريِفِهِ، والفصول لا تتوالى كما في تقاويم بابل، أَمْ.. في متواليات فيفالدي، وكان حكيم في الصين قد.. قال:
“في مركز الكون جهاتُ الروح، في القلب تتداخل فصولُ الجسد”.
ثُمَّ، لم يُكْمِل.. كأنما انكسرت في حبره حروف الخَزَف.
قيسٌ وليلاهُ.. نائمان، هل يُشبه موتي.. نوماً؟
أصرخ من شهقة الأمل: ـ اقطع يا مُعاويةُ.. شَعرَتك.
Social Links: