سعيد ناشد
فحسب أم أن العملية أعقد من ذلك كثيرًا، وتحتاج إلى تغيير سياسي اقتصادي يتزامن معها أو يسبقها بما يؤدي إلى ولادة شرائح اجتماعية جديدة لها مصلحة حقيقية في الإصلاح الديني؟ في كتابه (العرب والفكر التاريخي)، كان السؤال الذي يؤرق عبد الله العروي هو: كيف يمكن أن نحظى بمكتسبات الليبرالية من دون أن نمر بمرحلة ليبرالية. هل هذا ممكن حقًا؟ هل من الممكن إنجاز الإصلاح الديني من دون السياسة والاقتصاد؟
جواب:
لا يزال الخطاب الديني الذي صاغه الفقهاء إبّان العصر الوسيط، هو الخطاب الأكثر تأثيرًا على مجتمعاتنا الإسلامية كافة. لا يزال السؤال عن الحلال والحرام بمعناه الفقهي الضيق، يسبق السؤال عن النافع والضار بالمعاني الاجتماعية والصحية والبيئية. لا يزال السائلون يسألون إن كان الإدمان حرامًا، والتدخين مكروهًا، والمشروبات الغازية حلالا طيبا، أكثر ما يسألون عن ضرر ذلك على صحة الإنسان. لا يزال السائلون يهتمون بالسؤال عن جواز التجارة مع “الكفار” أكثر ما يهتمون بمضامين الصفقات التجارية وأثرها على الميزان التجاري.
لا تزال الأسئلة عن الأكل الحلال تسبق الأسئلة عن الأكل الصحي، بل تلغيها في معظم الأحيان. لا تزال الأسئلة عن الزواج الحلال تسبق الأسئلة عن الزواج السعيد، بل تلغيها في معظم الأحيان. لا تزال الأسئلة عن اللباس الحلال تسبق الأسئلة عن اللباس المناسب للمناخ والملامح والوظيفة، بل تلغيها في معظم الأحيان. فلا غرابة والحال كذلك أن تستثمر بعض الشركات هوس الحلال لأجل تسويق منتوجات لا علاقة لها بمسائل الحلال والحرام، اللهم الرغبة في تعطيل عقل المستهلك أمام أسئلة الجودة والأسعار !
الحاصل أننا نعاني من تمركز حاد حول ثنائية الحلال والحرام، الكفر والإيمان، أهل الجنة وأهل النار، دار الحرب ودار الإسلام، وبحيث يهمنا أن يكون الملاكم الذي انتصر بالضربة القاضية مسلما حتى وإن كان يحمل الراية الأمريكية، يهمنا أن يكون الهدّاف الذي سجل الهدف الأسطوري مسلما حتى وإن كان يحمل قميص فريق أوروبي. وفي المقابل لا يهمنا أن يكون نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل مسلما طالما الأدب لا يشفي الغليل. المعضلة كلها في الغليل إذًا !
لأجل ذلك كله، لا يمكن القفز على مرحلة إصلاح الخطاب الديني.
إذا كان الخطاب الديني الشائع عندنا يخالف مقاصد الدين، بحيث ينمي مشاعر الشقاء والرعب والغيرة والكراهية والتواكل، والتي هي جذور الفتن والتسلط والريع، فسيكون إصلاح الخطاب الديني هو المدخل إلى إصلاح الوجدان، ومن ثمة إمكانية المساهمة في تطور الحضارة الإنسانية. وهو ما ينطبق عليه مضمون الآية الكريمة (حتى يغيروا ما بأنفسهم).
غير أني على قناعة بأن إصلاح الخطاب الديني وظيفة الفلاسفة العَمليين والحكماء المصلحين بالدرجة الأولى، طالما يتعلق الأمر بتفكيك المفاهيم، قلب القيم، تهذيب الغرائز، إصلاح الحضارة، وإجمالا، المساهمة في تربية النوع البشري.
Social Links: