هل رجال الدين علماء

هل رجال الدين علماء

سعيد ناشيد

في منطقتنا يُطلق على رجال الدين اسم “العلماء”، ويكاد هذا الاسم لا يحضر إّلا في سياق توصيف أولئك المهتمين أو العارفين بأمور الفقه والإفتاء والعقيدة والشريعة، خصوصًا في غيابنا عن ساحة الإبداع العلمي؛ الفيزياء والكيمياء والرياضيات… إلخ. والغريب أن هذا الاسم لا يُطلق على شخصيات مثل محمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهم ممن كان مجال عملهم الرئيس هو الدين والتراث أيضًا، لكن بطرائق ومنهجيات ولأهداف مختلفة بالطبع. والأمر الأكثر غرابة أن علم أولئك “العلماء” الذين يسيطرون على المشهد والعقل، يقوم كله على الاجترار: (النقل) و(الإخبار) و(الرواية)، ولا توجد لديهم أي اكتشافات أو إبداعات أو تجديد في أي مستوى. في ذلك يقول إلياس مرقص: “مشكلتنا ليست في سيطرة الفكر الديني، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي”، ويرى أن التيارات الإسلامية في معظمها تتهرب من هذا المصطلح لأنها لا تريد فكرًا دينيًا، فهي “لا تؤمن كثيرًا بقضية الفكر”، لأن “الفكر الديني بوصفه فكرًا يؤدي إلى الفلسفة”. هل تمكن مواجهة التيارات التراثية السائدة والعلماء” بالفكر والفلسفة؟ وهل لا يزال بناء فكر ديني أمرًا مشروعًا وضروريًا؟ (مجلة ميسلون).

جواب:
“رواه فلان عن فلان”، “هذا ما أجمع عليه علماء الأمة”، “هذا ما اتفق عليه السلف الصالح”، “هذا هو رأي التابعين وتابعي التابعين إلى يوم الدين”، “معلوم الدين بالضرورة”، تلك هي العبارات التي أفرغت الدين من الفكر والتفكير، وحوّلته إلى حاكوم (جهاز تحكم عن بعد) يمسكه رجال ماتوا في الغالب قبل أزيد من ألف عام، فلم يعد للتفكير من دور طالما السلف قال كل شيء، وقرر كل شيء، ولم يبق للخلف سوى الاجترار والتكرار، مع هامش ضئيل لشرح الشروح، وتفسير التفاسير. ثم أن السؤال الذي هو منطلق التفكير قد صيّره التابعون مجرّد بدعة، والبدعة ضلالة، فضلاً عن إشاعات مغرضة من قبيل، لا اجتهاد مع النص، والتي سرعان ما صارت لا اجتهاد في النص. وفي النهاية أصبح الدين مجرد مدونة سحرية يتم إتباعها طوال الوقت، وفي كل الأوقات: الحرص على الدخول بالرجل اليمنى سواء تعلق الأمر بالدخول إلى كوخ صغير أم فندق خمس نجوم، الحرص على ترديد دعاء الركوب سواء تعلق الأمر بركوب عربة يجرها حمار أم طائرة من آخر طراز. ثم أصبح الحرص على الأكل الحلال أهم من القيمة الغذائية أو الصحية أو البيئية، وأصبح غطاء رأس المرأة أهم مما يوجد داخل الرأس، وبالجملة صارت المظاهر أهم من المشاعر، والأخبار أهم من الأفكار، والنقل أهم من العقل، وصورة الدين أهم من جوهر الدين.
إذا كان روسو، ربما بإيحاء من (سفر التكوين)، يرى أن كل ما خلقه الله حسن قبل أن تمسه يد البشر، فقد خرج الدين بدوره من يد الخالق بنحو حسن ثم سرعان ما أفسدته أيادي البشر، أفسده رجاله، حراسه، والناطقون باسمه.
قد يغادر المؤمن خطبة منبرية أومجلسًا دعويّا بشيء من الرضا والارتياح أحيانًا، غير أنه ارتياح مؤقت سرعان ما يعقبه توتّر مشحون بالسخط والحزن والتذمّر. معنى ذلك أنّ مشاعر الارتياح التي غمرته لم تكن أصيلة، وأن الخطاب الديني الذي تلقاه لم يمنحه الأمن الروحي الذي يُعدّ من مقاصد الأديان، بل عكس ذلك فقد هدد صحته الروحية في الأخير. والطامة الكبرى أنه قد يعاود الجهد نفسه بجرعات أكبر، أملا في راحة تدوم، فيظل يدور في حلقة مفرغة تأكل أيامه وتشل نموه، وإن لم ينتفض قبل فوات الأوان فقد ينتهي به المآل إلى الاكتئاب أو الإرهاب.
اليوم لا تحتاج التجربة الدينية إلى التفكير وحسب، بل تحتاج إلى التفكير النقدي تحديدًا، وذلك من أجل إعادة بنائها على أسس جديدة، سواء من حيث العلاقة بالنصوص، العلاقة بالتاريخ، العلاقة بالحضارة المعاصرة، أم العلاقة بالذات الإلهية. نحتاج إلى فكر ديني إنساني يراهن على ما هو إنساني في الإنسان، ومن ثم يحقق الأمن الروحي الذي هو غاية الأديان كما يُفترض. نحتاج إلى الانتقال من الخطاب الديني التقليدي المنتج للفتن والطغيان، إلى خطاب ديني يبني الحضارة والتقدم والإنسان، أو هذا هو المأمول.
نحتاج عمليا إلى ثلاث مسارات إصلاحية متساوقة:
أوّلًا، تحديث الخطاب الديني، لا سيما بالنظر إلى الخطب المنبرية، وتطهيره من مشاعر الحقد والكراهية والخوف والانتقام والتعصب والجشع، وذلك عبر ضمان تكوين جديد للأئمة وخطباء الجمعة، واستفادتهم من دورات تكوينية في قيم المساواة وحقوق الإنسان والمحافظة على البيئة واحترام الاختلاف والتنوع ومقاربة النوع، فضلا عن تنمية الذائقة الأدبية والفنية والموسيقية لديهم لغاية تهذيب الغرائز، تلطيف الانفعالات، وتليين الروح، وهذا إجراء أساسي كما أرى.
ثانيًا، تحديث مناهج التعليم، لا سيما بالنسبة إلى المواد الدينية، وتخليصها من قيم التمييز القائمة على أساس الدين، الجنس، العرق، ونحو ذلك، مع التركيز على استنباط القيم الوجدانية من الخطاب القرآني لأجل ترسيخها في الناشئة، من قبيل المحبة، الرحمة، الحكمة، العفو، الصفح، الصبر الجميل، كظم الغيظ، إلخ. وهي القيم التي عادة ما يتم إغفالها مقابل التركيز على الأحكام. والأحكام كما أؤكد مرارًا مقيدة بظرفي الزمان والمكان وسياق التنزيل وقابلة للنسخ والتعطيل، عكس القيم الوجدانية التي تظل عابرة لكل الأزمنة وكل الثقافات.
ثالثًا، ترسيخ ثقافة احترام القانون، وإخضاع الفتوى والرّأي الديني والاجتهاد الديني لسلطة القانون، باعتبار القانون تعاقدًا اجتماعيًّا يضمن العيش المشترك بين مواطنين محكوم عليهم بالاختلاف في الآراء والأذواق والميول والرغبات والهواجس، وأيضًا باعتبار الاجتهادات الدينية محكومة من جهتها بمبدأ النسبية، طالما أنّ الأحكام الفقهية ترجيحية، والمعاني القرآنية حمالة أوجه، والاختلاف في ذلك كله هو رحمة للعلماء وللناس أجمعين.

  • Social Links:

Leave a Reply