زكي الدروبي
كان أذينة الثاني، ملك تدمر، يراقب الصراع بين أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمان (الفرس والروم)، وشاهد هزيمة الرومان أمام الساسانيين، وأسر إمبراطورهم فاليريان.
فأرسل الهدايا للإمبراطور الفارسي شابور تقرباً منه، فقد كانوا على تخوم مملكته (تدمر) جغرافياً، ورغب في حمايتها واستغلال الوضع الجيوسياسي في ذلك الزمن للتوسع على حساب الروم، والانتقام لمقتل والده أذينة الأول. وحين رفض ملك الفرس هداياه، وأهان رسله، علم أنه على قائمة أعداء ملك الفرس، فعزز تحالفه مع الرومان، وهزم الفرس في معارك عديدة، وحاصر عاصمتهم مرتين، وحصل على مزايا عديدة من الروم، الذين كانوا قد عقدوا تحالفات مع أبيه سابقاً، للحصول على دعم البادية السورية لإمبراطوريتهم، ولتكون مساحة جغرافية صادة لهجمات الفرس عليهم.
دروس التاريخ في التحالفات
اعتمدت الممالك السورية على خطوط التجارة التي أمنت الأموال اللازمة لبناء الدولة والجيش، وعلى موقعها الجغرافي في قلب البادية السورية، مثل تدمر والبتراء عاصمة الأنباط، لحمايتها من بطش القوى المحيطة بها. وفي الوقت نفسه عملت على التودد للرومان والاستفادة من الصراعات المحيطة بهم لتأمين استقلالية أكبر لممالكهم. وهذا ما استطاع فعله أخيراً القريشيون، حين خرجوا من قلب الصحراء محملين بأيديولوجيا أخلاقية عظيمة هي الدين الإسلامي، واستقبلهم أولاد عمومتهم – الناقمون على الساسانيين والرومان – في الشمال، مستغلين الحروب الطويلة بين الساسانيين والرومان، والتي استنزفت الإمبراطوريتين، وسهلت على قريش، تلك القوة الصاعدة، مهمتها في الحلول مكانهم بهذه الجغرافيا المهمة من العالم.
في كلا التجربتين، استطاع أذينة وقريش الاستفادة من الصراعات والتحالفات التي عقدوها لتحقيق مصالحهم في بناء مملكتهم المستقلة عن الإمبراطوريتين. فقد تحالف أذينة مع الروم، وحصل منهم على مزايا عديدة، وحمى مملكته من الفرس.
وكذلك فعل القريشيون حين هربوا إلى عمق الصحراء بعيداً عن أيدي الفرس والرومان، واستطاعوا تأليف قلوب القبائل، ونجحوا في تشغيل خط التجارة اليمني الشامي – رحلة الشتاء والصيف – وخرجوا ليدمروا الإمبراطورية الساسانية، وليستحوذوا على قسم كبير من أملاك الإمبراطورية البيزنطية.
وفي الحديث عن التحالفات، تحضرني أيضاً تجربة إبراهيم باشا ابن محمد علي، حيث كلف السلطان العثماني الأخير بالقضاء على الحركة الوهابية في الدرعية. فجمع محمد علي كبار قادته العسكريين، وفرد سجادة كبيرة، واضعاً تفاحة في منتصفها، وطلب منهم جلب التفاحة من دون أن تطأ أقدامهم السجادة. حاول القادة كثيراً، فمنهم من قفز، ومنهم من حاول السير على يديه، ولم ينجح أحد، إلى أن استأذن إبراهيم باشا والده بالمحاولة. فسخر منه بقية القادة، حيث إنهم أطول منه وأكثر رشاقة، ولم يستطيعوا جلبها، فكيف سيفعلها، وهو القصير المملوء الجسم؟ ببساطة لف السجادة، وسحبها، حتى وصلت التفاحة عند قدميه، فالتقطها وناولها لوالده.
أعتقد أن التغيرات الجيوسياسية المتسارعة التي تحصل في منطقتنا، تستوجب عملاً سريعاً من القوى الوطنية الديمقراطية للوصول إلى حد أدنى من التفاهمات بينها.
المهام الماثلة أمامنا مع المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة
لقد كانت البداية دائماً من قوة محلية استطاعت فهم الظروف الجيوسياسية المحيطة، واستغلتها ببراعة عبر التحالف مع قوى مناسبة، فحمت نفسها، وبنت دولتها.
في ظروفنا السورية، أين هي القوة الذاتية؟ وما هو تسلسل القوى المحتلة الأوجب بالإخراج بالاستناد إلى الدروس التاريخية التي خبرناها خلال آلاف السنوات في هذه المنطقة من العالم؟
أعتقد أن التغيرات الجيوسياسية المتسارعة التي تحصل في منطقتنا، تستوجب عملاً سريعاً من القوى الوطنية الديمقراطية للوصول إلى حد أدنى من التفاهمات بينها، ومن ثم تنطلق لتعمل، وتبني التحالفات، للوصول إلى استقلال سوريا عن الاستبداد، والاحتلالات المتعددة، وفي مقدمتها الاحتلال الإيراني القريب جغرافياً، والذي يمتلك خطوط إمداد تجعله أقدر على السيطرة من الاحتلال الروسي البعيد جغرافياً في عمق الصحراء المتجمدة الشمالية، والباحث عن منفذ للخروج من المناطق المتجمدة التي تحيط به، ليصدر بضاعته، ويدعم اقتصاده.
لهذا رأيناه يضع كل ثقله على الساحل السوري، وهي النقطة الوحيدة المتبقية له في المياه الدافئة، بعد أن خسر ليبيا، ومنعته أميركا من الحصول على ميناء في جيبوتي، وحتى بعد توسع روسيا في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إليها للحصول على مساحة أكبر على البحر الأسود، ومحاولاتها ضم جغرافيا أخرى من أوكرانيا، فستبقى مخنوقة في مضائق البوسفور والدردنيل قبل الوصول إلى البحار المفتوحة كالبحر المتوسط.
العدو الأول للسوريين اليوم
يعيش النظام الإيراني اليوم مأزوماً بفعل المتغيرات الحاصلة، والتي تهدد بدفعه للانكفاء إلى داخل حدوده، مع ما يترتب على ذلك من خسارة أذرعه التي بناها خلال سنوات طويلة ماضية، وخسارة اقتصادية ثقيلة تكبدها، وهو يصرف على تلك الميليشيات، والتوسع الذي عمل عليه جاهداً. وإن حصل وأجبر على العودة إلى داخل حدوده، فسينعكس هذا على مجمل المنطقة، وعلى وجوده كنظام، حين يبدأ الشعب بمساءلته عن أمواله وثروته التي بددها في الخارج.
هذه الأزمة قد تكون في صالحنا كسوريين إن استطعنا توحيد أنفسنا، ورؤيتنا حول توصيف النظام بأنه نظام مستبد قاتل لشعبه ناهب لثروات بلاده عميل لقوى الخارج، وليس نظاماً أقلوياً أو نظاماً علمانياً أو عروبياً أو غيره. وحول توصيفنا للثورة وهدفنا منها، فهي ثورة وطنية تهدف لإسقاط نظام الاستبداد وإحلال نظام ديمقراطي تعددي يتساوى فيه جميع السوريين بالحقوق والواجبات أمام القانون، وليس نظاماً دينياً أو قومياً، أو نخطئ فنبحث عن مصالح أقلوية هنا أو هناك لصناعة إمارة غير قابلة للحياة، منطلقين من فهم خاطئ لأيديولوجيا نتجت عن اضطهاد، وأحلام رومانسية عن استعادة إمبراطورية متخيلة انتهت، وعفا عليها الزمن.
للأسف، ما يزال بعضهم يخطئ في قراءة الموقف الجيوسياسي في المنطقة، ويعتقد أنه يمكن الحصول من الدول الأوروبية على سلاح يفتح به جبهة ثانية على روسيا في سوريا، من دون تقدير الموقف الحقيقي.
إن كل القوى العسكرية غير السورية الموجودة في سوريا هي قوى محتلة يجب إخراجها بكل الوسائل المشروعة، وهذا هدف استراتيجي.
الأولويات الجيوسياسية في سوريا
إن جميع القوى في سوريا لن تسمح بهذا. فلا تركيا ستوافق، ولا أميركا راغبة في فتح جبهة ضد روسيا في سوريا، ولا إسرائيل توافق على هذا الأمر بعد أن استطاعت تحييد روسيا عن استهدافها للقوى التابعة لإيران في سوريا، وسترى استنزاف روسيا في سوريا يضعف الروس أمام الإيرانيين، ويسمح لهم بالتمدد أكثر في سوريا.
إن كل القوى العسكرية غير السورية الموجودة في سوريا هي قوى محتلة يجب إخراجها بكل الوسائل المشروعة، وهذا هدف استراتيجي. لكن العمل التكتيكي المرحلي يتطلب تصنيف قوى الاحتلال، وتأجيل الصراع مع أحدها حتى ننتهي من الأكثر إلحاحاً وخطراً، وأرى أن الخطر الأساسي قادم من إيران.
إن النظرة الحالمة الرغائبية غير الواقعية، وعدم قراءة الواقع وما يحيط بنا من مؤثرات، قراءة واقعية، هو ضرب من ضروب السعي لاستمرار الفوضى، والتي تسهل على المحتل استدامة احتلاله وطغيانه، والوحدة تسهم في إضعاف الاحتلال. فانقلاب ابن أخي أذينة الثاني عليه وقتله لعمه، سهّل على الرومان القضاء على حلم المملكة التدمرية، والفوضى وتنازع القبائل سهّل على الدول الكبرى السيطرة والهيمنة علينا. وبالعكس، فإن الاقتتال بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، سهّل على أبناء هذه الأرض بناء إمبراطوريتهم.
في تقدير الأولويات الجيوسياسية، أعتقد أن التركيز – بعد بناء القوة المحلية من خلال تحالف القوى الوطنية الديمقراطية السورية – على الاحتلال الإيراني لسوريا، وبناء التحالفات مع أعداء هذا الاحتلال في الشرق والغرب، سيحقق أولى خطوات استعادة سوريا
Social Links: