الدولة العميقة .. والمجتمع العميق.

الدولة العميقة .. والمجتمع العميق.

جمال سلطان

‏كنا في ندوة فكرية مصغرة مع المفكر الكبير الدكتور سيف عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حديثنا كان عن “الدولة العميقة”، وهو المصطلح السياسي الذي انتشر في تركيا طوال قرابة نصف قرن، وانتقل منها إلى مصر مؤخرا، ليعبر عن منظومة سيطرة وتحكم غير مرئية في الدولة بشكل مؤسسي أو علني أو دستوري، لكنها تمسك بخيوط كل شيء في الدولة من وراء ستار، السياسة والاقتصاد والإعلام والقضاء والفن والأمن والسلاح بالطبع، بحيث تكون الحكومات الرسمية مجرد واجهة، عرائس تحركها الدولة العميقة بالريموت كونترول من وراء ستار، وهذا مشاهد بوضوح هذه الأيام في مصر تحديدا .

‏فاجأنا الدكتور سيف عبد الفتاح بقوله ، أنه لا يكفي أن نواجه الدولة العميقة وحدها، بل لا بد من مواجهة “المجتمع العميق” أيضا، كان التعبير مفاجئا، فطلبت استجلاءه، فتحدث عن قطاعات واسعة من المجتمع، تعيش في قاعه أو وسطه، يديرون ظهورهم للشأن العام، ومصالح الشعب والوطن، إلا ما يتعلق بمشكلة شخصية لهم، يعيشون بجوار “الحائط” أو ربما بداخله، وينظرون إلى البلد وأموالها وقراراتها باعتبارها محفوظة لمجموعة من الأسياد ولا دخل لنا فيها، وهؤلاء هم مطية النظم المستبدة، ومخزونها الشعبي الذي تتلاعب به في مواسم الانتخابات أو الاستفتاءات أو أي استحقاقات سياسية شعبية أو رسمية، يضاف إليهم قطاع آخر من الملوثين بالفساد أو الانحراف أو البلطجة، وهم أيضا قطاعات واسعة، تستخدمها السلطات المستبدة دائما لمواجهة أي تمرد شعبي، أو قمع أي موقف احتجاجي، أبرز ما فيهم هم مجموعات البلطجية الذي تم تنظيمهم في عصابات وخلايا إجرامية، تحت سيطرة ورقابة الجهات الأمنية، ويتم استدعاؤهم وتوظيفهم على فترات كلما احتاجت إليهم السلطة .

‏الدولة العميقة هي أخطر معوقات تحرر الشعوب، ونهضتها، لأنها ـ بطبيعتها ـ منظومة فساد وتخريب وقمع وقهر للشعوب، لذلك يكون تفكيكها هو أهم وأخطر عمل سياسي ، سواء كان إصلاحيا على الطريقة التركية، أو ثوريا على الطريقة الفرنسية ، وأخطر شيء يمكن أن يقع فيه أي جهد إصلاحي أو ثوري تصوره أنه يمكنه أن يتعايش ـ ولو مرحليا ـ مع الدولة العميقة ورموزها وأدواتها، وهذا هو الخطأ الجوهري الذي أضاع ثورة يناير، سواء بسوء تقدير الإخوان والمرحوم الرئيس مرسي ، أو بسوء تقدير المعارضة وجبهة الإنقاذ بكل تياراتها وتجمعاتها، الدولة العميقة كانت هي الثعبان الذي تخفيه في ثوبك، وهو ينتظر الفرصة ليلدغك لدغة الموت.

‏المجتمع العميق هو الآخر، عبء كبير على أي مشروع إصلاحي أو ثوري، وأذكر في الأيام الأخيرة لمبارك، وقبل أن يعلن تنحيه، أننا كنا نقابل مواطنين عاديين في المترو أثناء توجهنا إلى ميدان التحرير يشتموننا لأننا نتظاهر ضد مبارك، أحدهم قال لي : ماذا تريدون من الريس، إنه يطعم 80 مليون إنسان وصرف عليهم !!، عايزين منه ايه؟، كان من إضاعة الوقت حينها أن تناقشه أو تفهمه خطأ تصوره ، لأن ذلك يقتضي تواصلا سياسيا وتثقيفيا دؤوبا مع جذر المجتمع على مدار سنوات، وهو ما لم نفعله مع الأسف، وكنا نكتفي بالنضال الصحفي والإعلامي أو النقابي أو السياسة في دوائرها العليا، فبقي مجتمعنا يعاني من “الأمية السياسية”، وعلى الرغم من الظلم الفادح الذي يرزح فيه، ونهب أقواته وحقوقه، إلا أنه لم يكن مدركا لحجم هذا الظلم، وحجم حقوقه المهدرة، سياسيا أو اقتصاديا أو تعليميا أو صحيا أو غير ذلك، وهو ما كان يسهل على نظم الاستبداد التلاعب بتلك العقول المسطحة، وتحريكها مع ريح الإعلام أو حسابات أصحاب النفوذ العائلي أو الأمني أو الإداري في أجهزة الدولة.

‏لذلك تحرص النظم المستبدة على حماية الأمية في المجتمع، لأنها عازل اجتماعي مهم، يحميها من الثورة، ومن الغضب، ومن انتفاضات الشعوب، كما أن إفساد النظام التعليمي نفسه، وتسطيحه، وجعل مخرجاته شديدة السطحية والتفاهة، هو أيضا ليس مجرد عجز أو سوء إدارة، بل هو منهجية مقصودة، لتسطيح وعي الأجيال الجديدة، وتفريغها من أدوات الوعي الإنساني والسياسي بأبعاده الكاملة، والمؤسف أنك أحيانا تقابل أكاديميين وأساتذة جامعات، لا يختلف وعي أحدهم السياسي والتاريخي عن الأميين والعوام، بل ربما كان بعض العوام أكثر وعيا منهم سياسيا .

‏لذلك يكون مهما للغاية لكل جهد إصلاحي، التواصل الحميمي والدؤوب مع “المجتمع العميق”، حتى يكون هذا المخزون المليوني داعما للإصلاح، والتغيير، وليس عائقا دونه، وهذه مسؤولية كل التيارات، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، لأن هذا هو الخزان الشعبي الذي سيمد تلك التيارات بنشطائها، وهو الجدار الذي سيحمي ظهرها عند المواجهات، وعلى الأقل ستتمكن من حرمان النظام المستبد من استخدامه وتوظيفه لعرقلة حراك التغيير والإصلاح، تواصل القوى السياسية والإصلاحية مع جذر المجتمع في القرى والكفور، والأحياء الشعبية، والنوادي الرياضية في الريف المنسي والحضر المهمش، ينبغي أن يكون أولوية أهم من نوادي الثقافة في القاهرة أو الإسكندرية وندوات الأتيليه ومقاهي وسط البلد، وينبغي الدفاع بكل ما يمكن من قوة عن حق الشعب في انتخابات المحليات، البلديات، فهذه هي الورش الحقيقية لتدريب الشعب على الديمقراطية، وعلى مراقبة عمل الدولة وأجهزتها، وعلى ممارسة الحكم أو بعضا منه وصولا إلى إدراك أن هذه بلد كل مواطن، وأنه شريك في المسؤولية وليس مجرد زبون.. الانتخابات المحلية في بعض مراحل التاريخ السياسي هي أكثر أهمية من الانتخابات النيابية نفسها، ولذلك يقاوم نظام السيسي حتى اليوم ـ بعد 11 عاما ـ أي دعوة للانتخابات المحلية.

‏مواقع التواصل الاجتماعي حققت ـ بدون شك ـ خدمة كبيرة لتنوير “المجتمع العميق”، والوصول إليه من أقصر الطرق، وأصبحت تفاجأ بمواطنين بسطاء من أقصى الريف أو الحضر المهمش، وهم يشتبكون مع قضايا الشأن العام، أو يشعرون بالظلم، وهي مقدمة ضرورية لمقاومة الظلم بعد ذلك، لكن مواقع التواصل الاجتماعي غير كافية وحدها، التواصل المباشر مع جذر المجتمع، ومكوناته المهمشة، ينبغي أن يكون عبر أكثر من وسيلة تواصل مباشرة وغير مباشرة، وإذا نجح قادة الإصلاح والتغيير في هذه المعركة، فبالتأكيد سينتصرون حتميا في معركة انتزاع الوطن من براثن “الدولة العميقة” .

  • Social Links:

Leave a Reply