احمد زاهر حوا
عزيزتي سمر
كتبت إليك عشرات الرسائل التي لم تصل ,كان بها آلاف الكلمات السوداء التي نزلت على بياض الورق فاحمرت من الدم المنسكب من يدي ,أخبرني ساعي البريد بأن الطرق بين الجولان وحمص مقطوعة وبأن الرسائل كلها فقدت إثر القصف الإسرائلي على مواقعنا العسكرية…سامحيني فقد كنت معزولاً عن العالم الخارجي وماكنت أرى سوى المدية والمشرط والجثث وما كنت اسمع سوى صرخات الموتى عندما كنت أحاول أن أداويهم…بكيت يا سمر بكيت حتى نزلت دموعي فوق جروح جندي كنت ابتر قدمه بدون مخدر بسبب نقص المعدات …قبل أن أنتهي حدقت في عينيه فرأيت الموت يغالبه وشعرت بأنه يقول سلم على هذه البلاد فإنها لنا …ماهي إلا ثواني وفارقت روحه جسده من الألم…هنا الجولان يا سمر …نموت ولا يدري عنا أحد …وإني لأدرك أنها رسالتي الأخيرة التي لن تصل …لذلك سأبوح بكل شيء وكأني أكلم ذاتي …اليوم على سفح هضبة الجولان وقفت أتغنى بالأمل …كنت أبحث عنه مثل الرضيع الذي يحرك يديه يمنة ويسرى لعله يلامس ظل أمه …كنت أتخيلك خلف السياج تنظرين الي بعينيك الكسالى تبكين وخلفك جندين من الصهاينة يصوبون بنادقهم عليك وفجأةً أراك تسقطين مضرجة بالدماء فأحاول أن استعيد وعيي وأن أعود الي كياني فأهز برأسي يمنة ويسرى واضرب جبيني بكف يدي فتهطل دمعتان واحدة من شوقي إليك والثانية من خوفي إذا ما عدت ولا أراك…إني يا سمر أحاول أن اجبر خيالي لأن يتصور أني أعود إلى دمشق فأقبل مسجدها الأموي ومن ثم اذهب إلى حمص فألتقيك عند باب البيت تنتظريني أن أعود وفجئاةً تعود السوداوية إلى مخيلتي فأتخيلك تحت ركام البيت الذي قصف …لذلك أسالك بالله كيف حال عينيك يا سمر وكيف يمضي عليك هذا الليل؟ وإن سألتيني عن هذا الليل أنا فإني أجيبك بأنه مليئ بكل شئء سواك به ضوء المدافع فوق رؤسنا وبه صراخات الجرحى وصلوات الشباب واستنجاد الضباط بالقيادة عبر الاسلكي ولكن لايوجد جواب ولكني منعزل لذلك أراه خالي من الصخب ومن كل ما قلته لك ،بل إني أرى به ضوء خافتٌ من المصباح المعلق في فوق رأسي الذي يملئه الضجر ,وصوت ريحٍ تضرب جدران الخيمة من الخارج وكأنها تكسر الحواجز لكي تعانقني وكيف العناق وجسدي باردٌ وريحٌ تحمل روائح الموتى قربي وصوت حسيس القلم فوق الورقة وأنا أخط هذا الكلام ,آه يا سمر اني بالكاد أشتم رائحتك منبعثة من حولي وكأنها تتسرب من بين أصابعي وتذهب إلى المنفى مغادرةً نحو الغياب ،وكأن بها شيئاً كنزعة الروح من الجسد, أحاول أن أمسك بها لكنها تطير مثل طيران الغبار حين تأخذه الريح إلى البعيد وتسافر بلا جسد وبلا أثر ،
سمر أيتها الصديقة القريبة والزوجة البعيدة المنطوية بين طيات الورق، هل تذكرين يوم جئتك من دمشق إلى حمص لخطبتك؟ هل تذكرين عندما سألتني مابك يا بهجت إنه أجمل أيام العمر فإبتهج نظرت إليك حينها وابتسمت …شعرت بأن قلبي ينخلع من صدري يريد أن يخبرك بأنه خائف وبأنه يشعر بأن الحرب ستبدأ وجاء ما كنت أخافه …أن ابتعد عنك.. فأنا لم تعد تغريني الدنيا بألوانها الصفر والحمر بل على العكس قد أرهقتني الوانها المزيفة وكأن نظرة فان كوخ تمثلت بي وكأني أشعر بأن الألوان الفاقعة ما هي إلا تجسيدٌ لشكل الكون المزيف …وبالرغم من أني أقاتل أعدائنا الأبديين ولكني ..لم أشعر بنشوة النصر التي أخبرتني إياه القيادة بها قبل أن تتركنا في مهب الريح …بل أدركت أن للون الأسود اللون غير تلك التي كنا نراها في الظلام وحيدين …هناك يا سمر لو صعدت لأعلى التلة ونظرتي إلى الجبهة لرأيت جنودنا يتحركون نحو الحدود حاملين معهم المتفجرات وقد عاهدوا أن لا يعودوا أبداً …قد يرعبك هذا السواد وكأنك ترين ملك الموت قرب هؤلاء الأبطال يتربص بهم ينتظر أن تغمض أعينهم فيأخذهم نحو الخلود …”أخلوا المعسكر فوراً وانسحبوا نحو دمشق في الحال …نعيد ونكرر انسحبوا بدون معداتكم الثقيلة فقد تم تسليم الجولان بالكامل …أيها الجنود تراجعوا قبل أن تصبحوا أشلاء فقد قضي الأمر “سمع بهجت هذا الصوت الصادر عبر اللاسلكي ومعه صوت هرج ومرج في الخارج …
طوى الرسالة ووضعها بجيبه بسرعة أخذ سلاحه ونزع ردائه الأبيض وهو يقول في نفسه لن أسلم هذا الوطن خرج خارج الخيمة رافعاً البندقية ويصرخ في جنوده إياكم والانسحاب فوالله لن نعود إذا انسحبنا ..اثبتوا وقاتلوا يعذبهم الله بأيديكم يقول هذا الكلام وهو يحاول أن يعيد من تبقى من الجنود الهاربين ولكن بلا جدوى كان الموقف أشبه بيوم القيامة ينظر يمنيه فيرى جنوداً يحاولون أن يحملوا الجرحى وجنوداً يحملون بنادقهم الصماء منسحبين إلى الخلف تاركين ورائهم مدرعاتهم …يمشي إلى الأمام بضع خطوات فيرى في الظلام مروحيات على بعد عشرات الأمتار تقل الضباط اصحاب الرتب العالية وتترك الجنود إلى مصيرهم المحتوم… ركض بهجت نحوهم صارخاً ألا لعنة الله على الخائنين تتركون أولادكم للصهاينة وماهي إلا لحظات حتى غادرت المروحيات منسحبة …توقف بهجت لوهلة ولم يدرك بعد ماذا يحصل التفت إلى الخلف بعد أن سمع صوت يناديه في الظلام …انبطح يا بهجت انبطح طائرات الصهاي …ولم يكمل جملته حتى سمع صوت الطائرات المقاتلة تخترق المجال الجوي وما هية إلا وهلة ليرى النيران تشتعل بأجساد من تبقى من الجنود …جثا على ركبتيه يراقب القصف الهمجي …يسأل نفسه ذاك السؤال لماذا تم بيعنا مثل النعاج؟ لماذا قتلوا هؤولاء الشباب هكذا؟ ولله لو ماتوا في المعارك لكان شرفاً لنا …يراقب كيف تتناثر أشلاء الجنود وكيف يسقط العلم السوري من فوق التلة ..أخرج المكتوب الذي وضعه بجيبه وكتب كلماته الأخير
ذهبوا كلهم وبقيت وحدي أنتظر العدو يا سمر …إني أحبك لذلك لن أهرب ..تعلمت من عينيك أن لا أهرب …وداعاً يا حبي الأجمل ويا زوجي الأنقى رضي الله عنك فإني راض عنك …وداعاً إلى أن نلقتي عند الله فإني لن أبيع أرضي ما حييت
بهجت المصري
1967
Social Links: