د جمال الشوفي
هذا بينما ذهبت النخبة الثقافية العربية في اتجاهات متعددة متباينة في موقفها من العولمة، بين قبول تام ورفض مطلق؛ حيث الفارق المهم بين مفكري النخبة العربية وغيرهم هو: بينما بقيت النخب العربية تشكل خطابًا منفردًا مع/ضد العولمة كموقف فكري نظري لم يندرج في تشكيل تيارات بذاتها، كانت ثورة التكنولوجيا تجتاح المجتمع العربي بذاته ماديًا، لتشكل وعيًا شعبيًا في اتجاهين: اتجاه تقني ومادي وآخر تواصلي وتفاعلي ظهر واضحًا في مقدمة ثورات الربيع العربي. هذا فيما بقيت نماذج الدولة ومؤسساتها بعيدة عن توطين مفاهيم الدولة الحديثة التي أسست للثقافة الكونية ولمنظومة العولمة من بعدها.
أما النقطة الثانية الواضحة هي النفعية المحضة من موضوعة العولمة والعلمانية التي تجلت بتعدد المنابر السياسية والمدنية وتشتتها بآن واكتفائها بظاهرة الامتثالية الفكرية المحضة أو الرفض المطلق، فللعولمة أثر بالغ على الموقف المعرفي للثقافات العربية والمثقف العربي، تشترك جميعها في أنها موقف فكري نظري كما هي المواقف المعرفية لمفكري العولمة ذاتهم، سواء قبول أو رفض، وبالرغم من تبايناتها، إلا أنها بالمحصلة قلما أعطت محتوى وأساسيات العولمة وشرط إنتاجها على مستوى الدولة الوطنية أولوية لازمة خاصة في مرحلة الليبرالية ما قبل العولمة، وما تستلزمه من شروط تشكل معرفية وعلمية بآن.
فحيث إنه لم تتشكل دولة المواطنة والحريات والقانون، سيبقى موضوع العولمة وأثرها على المثقف العربي عامة، وعصر الثورة خاصة والربيع العربي الحالي، نقطة جدال واسعة يميزها بالمبدأ سؤال الهوية والذي تباينت حوله مواقع الفكر العربي والتي يمكن إيجازها بشكلها النظري أدناه (مع التنويه إلى أن تباينات المواقع السياسية للمعارضة السورية، في معادلات الجيوبوليتيك الروسية الأمريكية، سنأتي عليها تفصيلًا في فصول الكتاب لاحقًا):
- دراسات أكاديمية نظرية متخذة منها موقف الحذر والبحث في أخطارها على الهوية الثقافية العربية، “العولمة الثقافية بذلك فرض منهج وثقافة غربية أمريكية بالهيمنة على العالم وشعوبه وأفراده، هي مسخهم وإهدار لخصوصياتهم إلى درجة ألا يكون لأي مجتمع ثقافة ذاتية وهوية شخصية أو خصوصية”.
- الرفض المطلق لما لها من تهشيم وتهميش للثقافة والهوية العربية بمحتواها الإسلامي في المبدأ “تعمل العولمة على تهميش الهوية وتدمير وتحطيم الثقافة الوطنية وذلك بسبب محاولتها تحطيم وتدمير كل القوى الممكن أن تقف في وجهها، ومن أهمها الثقافة العربية والإيديولوجية الإسلامية”.
- رفض العولمة ماركسيًا والتي رأتها محاولة سيطرة على شعوب العالم وقضم ثقافتها “العولمة هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، هي ليست ظاهرة اقتصادية أو سياسية أو تقنية أو معلوماتية فحسب، بل هي أساسًا ظاهرة تاريخية مستمرة تعبر عن رغبة الشمال في السيطرة على الجنوب” (حنفي والعظم، ص 96-97). وهو ذاته ما أكد عليه أيضًا كاتب آخر كعبد الوهاب المسيري “العولمة هي النظرية الإمبريالية الاقتصادية بعد أن تجمّلت قليلًا، فأصبحت تُدعى العولمة”.
- التبني الكلي للعولمة بمحتواها الليبرالي والتقني وذلك سواء اقترنت بمشروع الدولة الوطنية أو لم تتحقق معه، وذلك كتعبير واضح عن حالة شغف بثورة المعلوماتية وقدراتها الخلاقة “لا مبالغة في القول بأن عالمًا جديدًا يتشكل مع ظاهرة العولمة، يترافق مع ظهور بشري فاعل وجديد، يعمل عن بعد وبسرعة الضوء أو الفكر، بقدر ما يستخدم طرق الإعلام السريعة والمتعددة، أو يتعامل مع شبكات الاتصال المعقدة والفائقة، والعمل على نحو كوكبي وبصورة عابرة للقارات والمجتمعات والثقافات” (حرب، ص 29).
هذا التباين بين الرؤى المقدمة اتجاه العولمة والنظام العالمي، أنشأ تياران في الثقافة العربية، تيار استنكاريّ كليّ للعولمة ومن خلفها لثقافة عصر الأنوار وموضوعة الدولة العصرية، وفق اختلاط مفهومي واضح بينهما، وهو ما توافقت عليه كل التيارات الشيوعية والإسلامية والقومية الحاكمة منها والمعارضة؛ وفي الجهة الأخرى قاد هذا الاختلاط ذاته لعدم التمييز بين المصالح المادية لمنظومة العولمة وبين ثقافة العصر الكونية في الحرية والحداثة، لتشارك النخبة العربية بوعي منها مرة وبرغبة في أخرى، وعدم دراية في مرات، في هذا الاختلاط الذي ستكون كلفته باهظة على الجميع.
في هذا السياق، يمكن إدراج موضوعة الخلاف هذه كجذر عميق موجه للسياسة لا بسياقها الفكري والنظري فحسب، بل على مستوى المشاريع السياسية، التي بدأت تأخذ فعاليتها الواضحة بعصر الثورات، ما أنتج في جانبه السياسي الانزلاق الكبير لجهة الدخول في مواقع استثمارية لأحداث المنطقة العربية عامة وربيعها العربي تحديدًا، تنامت وتباينت معها أفكار ورؤى الارتهان والتخوين كما موضوعة المؤامرات الكونية في موازاة المشاريع الدولية ذات الطابع “المعوّلم” بجذرها الجيوبوليتيكي المحدث، ما سنأتي على تفصيله لاحقًا.
تلك المشاريع المتباينة المحلية فتحت البوابة العريضة للاستثمار الإيراني والتركي السياسي الإقليمي في موضوعة المسألة السورية، كما الروسي والأمريكي الدولي في مستوى أعلى من التحكم والهيمنة في معادلات الواقع السياسية. وذلك على أرضية التوجهات السياسية المحلية، بغية تحقيق معادلات تقاسم النفوذ السياسي بدءًا من ثورات الربيع العربي عامة وارتداداته، ومن وعلى بلد كسورية تخصيصًا، وذلك عند تباين الكتل السياسية السورية بين الانضواء مع ذلك المحور أو خلافه، في واقع يرسخ أدوات السيطرة والنفوذ والتحكم بالقرار السيادي الوطني خاصة في موضعه المنتج للوطنية السورية على بوابة جمهوريتها الثالثة. هذا مع ضرورة الأخذ بموضوعة أولى وفرضية هامة مفادها، أن الطريق إلى الجمهورية الثالثة وتحقيق الدولة الوطنية بحكم الثورة قد واجه بداية وبالسياق، جملة من المعوقات السياسية والعسكرية المتمثلة بمحور السلطة القائمة وتحالفاتها والتي يذهب البعض لاعتبارها السبب الرئيس في الكارثة السورية اليوم، وهذا وجه صحيح لكنه ليس الوحيد، فقد أثبتت الواقع أنه وإن كانت مسؤولية سلطة النظام هي الأولى، إلا إن مسار المعارضة السياسية والعسكرية وخلافاتها الحادة التنافرية لم تكن أقل شأنًا من حيث المساهمة في تجريدها من قرارها الوطني المستقل، والوقوع في فخ المشاريع الدولية ذات الطابع المعوّلم الجيوبوليتيكي، والتي عملت على تقويض مشروع الدولة الوطنية وتحويل موضوع الثورة لموضوعة تقاسم السلطة عبر كل من السلطة وصنوف المعارضات عامة.
Social Links: